ليس في العنوان لغز يحل، لكنه مقال دفعني إليه حديث جرى بين مجموعة من المثقفين الإماراتيين وهم عملة نادرة في وطني، فالناس اليوم في مجتمعنا غارقون إلا من رحم الله في حمى الأسهم وزيادة رأس المال، فكل يبحث عن طرق أو خبر يزيد فيه من صحة توقعاته كي تتضاعف أرباحه، وزيارة واحدة لمعرض الكتاب في أبوظبي تجد فيها صدى لهذا التوقع. كلمة دارت بين اثنين عبر عنها أحدهما بصوت واضح حيث قال: أنا من الصامتين. تأملت كثيرا في هذه الكلمة وما الذي دفع صاحبنا إلى قولها، والظروف المحيطة بنا كي تحول الإنسان الناطق إلى كائن قرر الصمت وهو ضد فطرته التي فطر الله الناس عليها، وعندما فعلت ذلك وقفت حائراً حول الصمت أهو الحق أم أنه ظرف ينبغي ألا يطول على الكثير منا.
ولبسط الحديث حول الموضوع دعوني أنقل لكم العديد من الوقفات التي تمر بنا جميعا، هل لاحظتم معي موقف العديد من الموظفين عندما يأمنون وجود المدير أو الرئيس فيتحدث أحدهم ناقداً بعض الأمور في المؤسسة، الغريب في الأمر أن كل الحاضرين موافقون على صحة هذا الأمر، لكن بمجرد حضور من يمثل المدير أو السلطة المدبرة للأمر في المؤسسة، ترى الحديث تبدل إلى غيره، وعندما تسألهم عن السبب يأتيك الرد انظر ما جرى لمن تجرأ وتحدث.. أين هم؟! وهنا تخنقك العبرة، هل هذا هو مجتمعنا الذي نحب أم أنها ثقافة وافدة إلينا وقيم لم نعرفها في آبائنا الأولين. مشهد آخر لحوار يجري بين مفكرين في أبواب موصدة يتناولون بينهم حواراً شيقاً حول مستقبل الوطن، فيتكلمون بكل صراحة شرط أن هواتفهم مغلقة ولا يوجد بينهم من لا يعرفون توجهه، هذا الحوار يضع الناس فيه أصابعهم على موقع الألم، وليس لهم من هدف إلا مستقبل أوطانهم، فإذا طلبت من أحدهم فتح نفس الحوار مع من بيده الأمر ترى تردداً مخلوطاً بعرق الأدب مصبوغاً بحمرة الخشوع يقول لك بصوت مخنوق، هل رأيت ما جرى لفلان من الناس عندما تحدث! لو جربت الحوار مع بعض من كان في موقع قيادي كأن يكون وزيرا أوكيل وزارة سابقاً أو مديرا في مؤسسات الدولة وتناولت معه الحديث حول المؤسسة التي كان فيها فإنه سيأتيك بالعديد من الأطروحات الجيدة، والأفكار المناسبة التي قد تخرج المؤسسة من ورطة وقعت فيها أو أزمة تمر بها، ولو قلت له: لمَ تحبس هذه الأفكار في صدرك الكريم؟ لقال لك، لمَ تقاعدت إذاً؟! إنك في مجتمعنا تبحث عن كاتب يتفاعل مع القضايا المستجدة فتجد ندرة في ميدان الكتابة وفرسان الخطابة وعندما تبحث تجد حقيقة مرة تقول لك إنهم كثر لكنهم قرروا الصمت، وعندما تبحث عن السبب تجد أنهم تلقوا درساً صعباً من ممارسة سابقة خاضوها هم كأشخاص أو مرّ بها من يعرفون من الأصحاب فرفعوا شعار "الباب الذي تأتيك منه الريح سده وتستريح"، وبهذا ينضم إلى حزب الصامتين العديد من البشر دفعهم إلى ذلك العديد من الأسباب والممارسات التي عاشوها في حياتهم وبهذا تخسر الدولة تلك العقول.
دعوني أقر مسألة معكم أن مجتمعنا ليس الأصل فيه هذه الممارسات، وأن مثل هذه العقول موجودة بيننا، كما أن الدواعي التي أوصلتهم إلى هذا القرار قد تكون صحيحة في بعض الحالات، لكن مجتمع الإمارات مازال ذلك المجتمع الذي هو بحاجة إلى كل العقول المتوفرة فيه في ظل ندرة العنصر البشري المواطن والمتخصص. ومن الحقائق كذلك أن من يفكر أو يتكلم أو يكتب سيخطئ بلاشك فكيف يعرف من أخطأ أنه كذلك دون أن يهدد مستقبله؟ لو نجحنا في ذلك لنجح مجتمعنا في دفع الناس للانتقال من عالم الصمت الذي لا نضمن نتائجه إلى حياة النطق التي تعود على المجتمع بالخير.