بعد أن استعرضت إحدى الصحف المحلية الصادرة بالإنجليزية مؤخراً، نتائج ما وصفته باستطلاع رأي حول موقف الجمهور من الرسوم الدانمركية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، قالت الصحيفة إن النتائج كشفت عن وجود "صراع حضارات في الإمارات"، وتابعت: إن الشباب يشعرون أكثر من الكبار بأن العنف ضد الرسوم "مبرَّر"، في حين رأت الأغلبية، وبينها غربيون، أن حرية التعبير تشمل الإساءة إلى الآخرين.
وإذا كان "استطلاع" الصحيفة المحلية قد خرج بنتائج تعبّر عن توجهات متباينة، سواء للمواطنين أو المقيمين، فإن هذا أمر بديهي لا يحتاج التوصل إليه إلى استقصاء للآراء في ظل وجود هذه الفسيفساء البشرية العاملة على أرض الدولة، ولكن القيمة الحقيقية هنا ليست في تباين الآراء، بل في ما إذا كان ذلك التباين يترجم في أنماط سلوكية أو توجهات فكرية يمكن أن يقال معها أو في ظلها، إن هناك صراعاً للحضارات أم لا؟
القفز إلى هكذا نتيجة من خلال استعراض بعض الآراء بطريقة عشوائية يبدو مثيرا للتساؤل، والحديث عن صراع للحضارات على أرض الإمارات أمر مثير للاستغراب والدهشة، لأن هذه المقولة تتنافى مع الوقائع على الأرض، ولكنها أيضاً تثير دهشة الجميع ممّن يلمسون أجواء التسامح والتعايش الفريدة على أرض الإمارات.
المشكلة ليست في هذا الاستنتاج فقط، ولكنها بالأساس تكمن في فكرة اضطلاع بعض الصحف المحلية بين الفينة والأخرى بإجراء استطلاعات رأي تخرج منها بنتائج تُبنى عليها تحليلات تتناقض مع رؤية أي مراقب موضوعي، علما بأن الكثير من هذه "الاستطلاعات" ليس سوى تحقيقات صحفية موسعة، أو هي في أحسن الأحوال تقع في منطقة وسط بين التحقيق في قالبه الفني من جهة، والاستطلاع بمنهجيته العلمية من جهة ثانية، وبالتالي يصعب في كثير من الحالات القول، بأن مثل هذه النتائج هي خلاصة استطلاع رأي يمكن القياس عليه والاحتكام إلى نتائجه وبناء قرارات أو سياسات معيّنة عليه.
المؤكد أن استطلاعات الرأي باتت تلعب دوراً بارزاً في مختلف قطاعات العمل بالدول المتقدمة، فلم تعد تقتصر أهميتها على التعرف إلى توجهات الناخبين حيال الشخصيات السياسية، بل باتت تندرج ضمن آليات اتخاذ القرار في شتى المجالات، وهو دور تختلف قيمته من مجتمع إلى آخر وفقا لاعتبارات عديدة. ولكن في جميع الأحوال يمكن القطع بأن ثورة الاتصالات وما تلاها من طفرة معرفية تجلّت بشكل قوي في المجال الإعلامي، قد لعبت الدور الأبرز في تعظيم مستوى الاعتماد على استطلاعات الرأي في مجالات وقطاعات مختلفة، ابتداء من التعرف إلى توجهات الرأي العام حيال الشخصيات السياسية، وليس انتهاء بقياس انطباعات الجمهور حيال هذه السلعة أو تلك.
وإذا كانت استطلاعات الرأي قد باتت على هذه الدرجة من الأهمية في صنع القرار السياسي والاقتصادي، فإن من الضروري أن تُجرى وفق أسس وقواعد منهجية خصوصا فيما يتعلق بإدراك بيئة الدراسة وتحديد العيّنات العشوائية واختيار الشرائح وفقا للتركيبة الفعلية للمجتمع، من حيث الفئات العمرية ومستوى الدخل والتعليم وغيرها من المحددات، كما يتوجب التأكد من شفافية طريقة الاستطلاع وموضوعيتها بمعنى الابتعاد عن الأسئلة الإيحائية، كما يجب الأخذ بالاعتبار طبيعة الأماكن والتوقيتات التي تُجرى فيها الاستطلاعات، ومدى تأثيرها في توجهات العيّنة المنتقاة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية