في هذا الكتاب الذي نعرض هنا قراءة سريعة له وعنوانه: "نظام الزمان العربي: دراسة في التاريخيات العربية- الإسلامية" يقوم الباحث رضوان سليم بحفريات مضنية في النصوص التاريخية العربية الإسلامية لاستخراج تصورات مخبوءة لمعنى الزمن والتاريخ، كما تمثلهما العرب المسلمون الأوائل ليس فقط في أعمال المؤرخين المحترفين، وإنما أيضا من خلال البحث عن التصورات الثاوية للزمن والتاريخ في غير المظان المعهودة للمشتغلين بالدرس التاريخي نفسه لدى العرب، "في حديثهم عن المذاهب والملل والنحل، وفي تعاريفهم للعقل، والعلم، وفي تصنيفات العلوم، وفي خوضهم في قضايا فلسفية وكلامية كالحدوث والقدم..". والحقيقة أن الدرس التاريخي تحول لدى العرب والمسلمين من جهد علمي تجميعي يضم الغث والسمين، في أحسن الأحوال بلغة واصفة، على نحو ما تحدث الإمام ابن جرير الطبري في مطلع تاريخه، دون نقد وإعمال للعقل وتحكيم لسنن الكون وأحكام المنطق، ليصبح بعد ذلك جهداً عقلانياً نقدياً مع مؤرخين من قبيل ابن خلدون ومدرسته التاريخية التي اشترطت الاحتكام إلى قوانين العمران البشري، ومقارنة اللاحق من الأحداث بالسابق، لأن الحاضر –من حيث هو أحداث موضوعية واقعة في حد ذاتها- أشبه بالآتي من الماء بالماء، كما قال ابن خلدون نفسه. لذا فإن العنصر الأكثر حيوية في الإسهام المنسوب إلى صاحب "المقدمة" هو الوعي بالزمنية كعامل فاعل في الحدث التاريخي، ومن هنا تميزه عن سابقيه من مؤرخين في الفضاء الثقافي العربي الإسلامي. فـ"الوعي بالزمنية هو الوعي بالتغير، أي التحول في إدراك الماضي، وهو الوعي نفسه الذي يفضي بالضرورة إلى الوعي بالتاريخ، بالصيرورة، أي تكوين وعي تاريخي بالمعاصرة"، كما يقول الكاتب في آخر كتابه.
ولتبيان الكيفية التي انفصل بها الدرس التاريخي عن علم الخبر التدويني الواصف الذي يزعم أنه يستخدم لغة محايدة، لغة في ذاتها، لينمي وعياً عقلانياً بالزمن، اقتضى ذلك من الخطاب التاريخي العربي- الإسلامي تجشم عناء قطيعة إبستيمولوجية مع أصوله في الكتابة التاريخية "الخبرية" التي ظلت زمناً طويلاً هي منظومته الإبستيمولوجية المعرفية الوحيدة، التي يأخذ منها أساساً أصله ومادته. ولتبيان ذلك ينطلق الكاتب في الفصل الأول الموسوم "التاريخيات"، لفض الاشتباك المفاهيمي المشوِّش على الإطار النظري الذي يتحرك بحثه لجلائه، مستعرضاً في المباحث الأولى: ماهية التاريخ، وعلاقته بالزمن، والأشكال التصورية التي استبطنها العرب لهذه العلاقة، من تحقيب وتقويم تاريخي للزمن، لينتهي إلى ما سماه "الزمان التاريخي".
وفي الفصل الثاني "النبوات" يقف الكاتب أمام الخصوصية الثقافية الدينية الأكثر تمييزاً للدرس التاريخي العربي- الإسلامي فيستعرض تحت عناوين مثل "التاريخ والنبوة" و"المبتدأ أو الزمن القدسي"، و"الزمان والنبوة"، التصور القائم في العقل التاريخي العربي- الإسلامي والذي تقدمه بأوضح وجه تقاليد كتابة السيرة النبوية، والطريقة المنهجية التي تطورت بها هذه الكتابة، هذا إضافة إلى أسلوب تمثل الزمن، ابتداء من لحظة الوحي الفارقة وظهور القطيعة الزمنية والأخلاقية مع المنظومة القيمية الجاهلية. أما في الفصل الثالث "الهويات" فنصل مع رضوان سليم إلى الربط التاريخي بين مفهومي التاريخ والأمة لدى المؤرخين المسلمين، وهو ربط له ما يبرره: "إذ يجد تفسيره في التصور التطوري للفكرة التاريخية من جهة، وسيرورة الفكرة المذهبية القائلة بأن اكتمال التاريخ تحقق بتكوين الأمة الإسلامية من جهة أخرى"، فتكوّن هذه الأمة باندماج هويات أمم وثقافات مختلفة انصهرت في بوتقة الهوية الإسلامية الواحدة، شكل تاريخاً للهويات يختصر زمانها ويضعها في سياق زمان أعم وأشمل. وفي الفصل الرابع "السياسات" يدخل كتاب رضوان سليم في تفاصيل ودلالات أبرز الأحداث السياسية المتفرقة في تاريخ الدولة الإسلامية الأولى من بيعة وردة وفتنة كبرى مسائلاً الزمن السياسي العربي في فجر الإسلام بما هو ناطق به، وفق المنهج التحليلي الحفري الذي اختاره الباحث زاوية للمقاربة والدرس ابتداءً مؤكداً أن فهم المؤرخين للأحداث في ذلك الوقت المبكر من تاريخ الإسلام أدق بكثير من فهم المذهبيين الذين تشكلت بموجب تصوراتهم المذاهب والطرائق القدد في المجال الإسلامي.
ويستدعي الكاتب في بداية الفصل الخامس "المذهبيات" قولاً دالاً لمؤرخ الأفكار الشهير أبو الفتح الشهرستاني صاحب كتاب "الملل والنحل" يؤكد فيه أن: "الخلاف نشأ في صفوف المسلمين حول مسألتين هما، مسألة الأصول ومسألة الإمامة"، ومن ثمَّ، فإن كتابة تاريخ المذهبيات كانت في حقيقتها كتابة تاريخ الاختلاف. غير أن تصنيف المذاهب الإسلامية يطرح مع ذلك أكثر من إشكال، بل هنالك من يرى أن مفهوم المذهبية نفسه نشأ من عملية التصنيف ذاتها. وهنالك من تحول التصنيف لديه إلى تعبير مذهبي واضح يوزع أوصاف الزيغ والضلال و"الفرقة الناجية"، بحسب موقعه المذهبي لا المنهجي. وهكذا تم نقل "قضايا الإمامة وأصول الدين من مجالها التار