النقاش حول جدوى تحرير التبادل التجاري بين الدول ليس جديدا، فقد سبق أن تطرق إليه العديد من الخبراء الاقتصاديين واستقر في أذهان الجميع أن مزايا الاقتصاد الحر وفتح الأسواق العالمية أمام البضائع والمنتجات المختلفة لا يمكنها إلا أن تعود بالنفع على جميع الأطراف المنخرطة في التجارة الحرة. وإذا كان النقاش يحتد بين الفينة والأخرى في أوساط الأكاديميين فذلك ليس لتفنيد مقولات الاقتصاد الحر ومنافعه، بل للتأكيد على ضرورة التساوي في جني الأرباح بين الدول النامية والدول ذات الاقتصاديات المتطورة. فخلال سنوات التسعينيات من القرن المنصرم أجمع المسؤولون في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ووزارة المالية الأميركية فيما أصبح يعرف بتوافق واشنطن على أن أفضل السبل للرفع من معدلات النمو الاقتصادي في البلدان النامية هو الإسراع إلى إزالة الحواجز التجارية وتحرير الاقتصاد. بيد أن الوصفة الاقتصادية تلك التي ركزت عليها المؤسسات الدولية لم تعطِ أُكلها بعد، رغم أن الولايات المتحدة مازالت تعتمد عليها كجزء من سياستها التجارية. وباستثناء الصين والهند اللتين حققتا نجاحا اقتصاديا باهرا واستطاعتا انتشال شريحة واسعة من السكان من براثن الفقر، مازال يعيش أكثر من ملياري شخص في العالم على دولار واحد في اليوم.
ورغم الاجتماعات الدولية التي تعقد دوريا مثل محادثات الدوحة في قطر سنة 2001 والاجتماع الدولي في المكسيك سنة 2003 لمعالجة الاختلالات في التجارة العالمية، لم يرتقِ التقدم إلى المستوى المطلوب في ظل مطالبة الدول الفقيرة بمراجعة الصفقات التجارية على أسس أكثر عدالة وإنصافا. وفي هذا الإطار يندرج الكتاب الذي نعرضه اليوم بعنوان "تجارة عادلة للجميع: كيف يمكن للتجارة أن تدعم التنمية" لمؤلفيه "جوزيف ستيجليتز" الاقتصادي البارز والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، إلى جانب "أندرو شارلتون"، الأكاديمي المخضرم في جامعة لندن للاقتصاد، ليساندا مطالب الدول الفقيرة في الاستفادة من شروط عادلة في التجارة تساعدها على تحقيق النمو الاقتصادي المطلوب. وفي رأي المؤلفين لن تكون التجارة العالمية منصفة بالنسبة للدول الفقيرة إذا استمرت المؤسسات الدولية في فرضها من فوق، بل يتعين إعطاء الاقتصاديات النامية فرصة الاتجاه نحو التحرير بتدرج يوائم الظروف الخاصة لكل دولة. وإذ يدعو المؤلفان الدول الغنية إلى الوقوف بجانب نظيراتها الفقيرة حتى تصبح مستعدة للانخراط في التجارة العالمية، فإنهما يناشدان أيضا الدول الغنية بتفكيك حواجزها التجارية وفتح أسواقها أمام منتجات الدول النامية وخدماتها.
ولأن "ستيجليتز" رجل يعي ما يقوله، لاسيما وأنه تنقل بين العديد من المناصب الرفيعة، حيث كان رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين، ثم نائب الرئيس للبنك العالمي فإن انتقاده للمؤسسات الاقتصادية الدولية ومعارضته للتجارة الحرة بشروطها الحالية يكتسيان أهمية خاصة. فعندما يتعلق الأمر بالبلدان النامية لا يعتقد المؤلفان أنه من الممكن تطبيق نفس النظريات الاقتصادية المعمول بها في الدول الغنية. بلدان إفريقيا جنوب الصحراء على سبيل المثال تعاني الأمرَّين عندما تحرر اقتصادها لأن سكانها لا يستطيعون الاستفادة من الصناعات الجديدة بسبب نقص التكوين وغياب البنية التحتية المتطورة. وفي أغلب الأحيان يتعذر على السكان الفقراء الحصول على قروض أو تأمين بسبب هشاشة المؤسسات المالية ما يجعلهم غير قادرين على إطلاق أعمالهم الخاصة أو الاستفادة من الفرص التي تتيحها التجارة الحرة. لذا يعتقد المؤلفان أن وتيرة فتح الدول الفقيرة لأسواقها أمام فرص التجارة الخارجية يجب أن تكون متساوقة مع إقامة مؤسسات جديدة من المدارس والبنوك وشق الطرق وغيرها ما من شأنه تعظيم الاستفادة من الفرص المتاحة.
وبدون إقامة تلك المؤسسات الضرورية لا تفيد التجارة بمفردها الدول النامية في شيء، بل ستؤدي إلى إلحاق المزيد من الأضرار باقتصادياتها. فقد لاحظ المؤلفان في كتابهما انتشارا كبيرا لمظاهر عدم المساواة في دول حررت اقتصادها مثل الأرجنتين وتشيلي وكولومبيا وكوستاريكا والأوروجواي. ولم تستفد المكسيك كثيرا من مرور عشر سنوات على توقيع اتفاقية لخلق منطقة تبادل حر مع أميركا الشمالية، حيث انخفضت الأجور قياسا بما كانت عليه قبل التوقيع على الاتفاقية، فضلا عن ارتفاع معدلات الفقر واللامساواة بين السكان، خاصة بعد انتقال العديد من الوظائف إلى الصين التي عرفت كيف تستفيد من التجارة العالمية من خلال استثمارها في التعليم والبنية التحتية بينما لم تتمكن المكسيك من القيام بذلك. وحسب "ستيجليتز" و"شارلتون" لم تنجح الدول النامية الناجحة في تحقيق معدلات نمو كبيرة إلا بعدما أغلقت أسواقها وحمت صناعتها لبعض الوقت واستعدت بما فيه الكفاية قبل تفكيك العراقيل التجارية. بالإضافة إلى ذلك يحذر المؤلفان من مغبة فرض نماذج اقتصادية بعينها على الدول الفقيرة لأنها مازالت في مرحلة تطور اقتصادي أولي وغير قادرة على مواكبة التطورات المتل