عندما تفتقد أي مؤسسة مقومات الاستقرار الإداري والأمن الوظيفي للعاملين فيها، تصاب صحتها الإدارية بوعكة مستمرة قد لا تشفى منها إلا بعد اهتراء أركانها، فالمؤسسات الناجحة تعتمد على مجموعة من التراكمات الإيجابية التي تجعل منها ذات مكانة مرموقة أمام المتعاملين معها عن قرب أو عبر البعد الافتراضي.
لو سنحت الفرصة للاقتراب المعنوي من تلك المؤسسات التي تعاني من تسييل لمواردها البشرية وتسريب متعمد أو مخطط نحو الانتقال إلى صفوف المؤسسات الأخرى وفي فترة زمنية قياسية قد يفاجأ أحيانا المسؤول المباشر عن تلك المؤسسات التي لا تفتح عينيها إلا وقد غادرت أروقتها أفضل الكوادر البشرية التي حرصت هي بنفسها لجذبها نحوها إلا أن عناصر الطرد كانت أسرع إليها قبل أن تنتفع من مهاراتها وخبراتها، لاشك في أن الصحة الإدارية لمثل هذه المؤسسات باتت على المحك، وإلا لما تدخل أمر السيادة لتغييرها بصورة جذرية من الرأس إلى الأساس.
إن مجتمعنا يمر في طور لا يحتمل من البعض التصرفات اللامسؤولة تجاه الموظفين الذين لا يقل شأنهم عن الآخرين ممن يتبوءون المناصب العليا لغرض ممارسة عمليات التعذيب الإداري للبعض ممن تشم منه رائحة التميز والإخلاص والعطاء الموجود دون انتظار لكلمة شكر أو امتداد العين إلى أي منصب مهما كان مقامه عند الناس عاليا، فكم ممن ابتلوا بالمناصب التي ذهبوا ضحايا لها بدل أن يضفوا عليها رونقا وجمالا بالعمل الدؤوب.
نحتاج إلى جهة محايدة تقوم بعمليات حسابية تدرس من خلالها ظاهرة الحراك الوظيفي بين المؤسسات والدوائر والوزارات وغيرها من المنشآت التي قد تسمع عنها سيلا جارفا من المديح مع أن واقع حالها يمضي بعكس التيارات التي تنادي بها قياداتنا الرشيدة.
فتصاب كوادرنا البشرية الوطنية بانتكاسات تلو الأخرى في وقت تعاني فيه الدولة من ظاهرة البطالة لمن لم يجربوا الحياة الوظيفية إلى حين، ترى هل سيصبح هؤلاء بمنجاة مما يحدث وما زال لمن سبقوهم إلى هذا الميدان بعقود؟!
فإذا تعرضت أي مؤسسة إلى فقد ثلث أو أكثر من كوادرها البشرية في فترة زمنية قصيرة قد لا تتجاوز السنة أو السنتين، فهل نحمل جانب العرض والطلب في سوق العمل بالدولة جزءا من المبررات لحدوث ذلك، خاصة إذا كان هذا الفاقد من الكوادر التي تحتاجهم أي مؤسسة كحاجة المريض إلى الدواء، فهل يعقل الاستغناء عن الدواء ولو دام المرض لسنوات طوال؟!
تعيش بعض المؤسسات أوضاعاً إدارية مزرية لا علاقة لها باللوائح والأنظمة ولا القوانين التي تنظم شؤون الأفراد، إلا أن هذا التسييل غير المبرر ليس له ضابط من قانون محكم ولا إجراء حكيم.
وهذا الوضع ليست له علاقة بالمناصب العليا أو الدنيا فالكل شركاء في هذا الثلث من الفاقد الإداري والثلث كثير، فقد يكون الضحية رئيساً تنفيذياً أو مديراً عاماً أو مستخدماً أعطى كل ما يملك من قوة الولاء لوظيفته ومع ذلك لم يسلم من اعتداء الصحة الإدارية المعلولة عليه.
نتحدث أحيانا عن البيئة الطاردة للعمالة المواطنة في القطاع الخاص ولكن ما يحدث حقيقة في المؤسسات العامة بالدولة بحاجة إلى مراجعة دقيقة من قبل جهة محايدة تكون لها صلاحية إعادة الميزان إلى وضعه الصحيح، فالصحة الإدارية في بعض مؤسساتنا الوطنية على المحك وبحاجة ماسة إلى التدخل من فوق قبل أن يتحول الصوت العالي للحفاظ على الموارد البشرية الوطنية بعد تأهيلها وتدريبها والوصول بها إلى درجة المهارات الفائقة بلا صدى ولا أثر يذكر.