في رحلتي الأخيرة التي قمت بها إلى أوغندا توقفت عند المكتب المحلي للصندوق العالمي لمحاربة الإيدز والسل والملاريا الذي ساهم منذ تأسيسه سنة 2002 في ضخ حوالى 54 مليون دولار إلى أوغندا لمساعدتها على مواجهة تلك الأمراض الفتاكة. لكن عندما قامت شركة "برايسوترهاوس" المختصة في تدقيق الحسابات بمراجعة إنفاق الأموال اكتشفت أن جزءاً مهماً منها ضاع في ظروف غامضة. وبالرغم من أنه لا أحد يعرف على وجه التحديد المبالغ المفتقدة، فإن التقديرات تشير إلى عشرات الملايين من الدولارات التي ضلت الطريق فذهبت إلى الحسابات الخاصة للمسؤولين الحكوميين، وهو ما أكدته الجرائد المحلية، فضلا عن تقرير شركة تدقيق الحسابات نفسه. وبينما أنفقت بعض تلك الأموال المخصصة لمحاربة الأمراض على الرحلات غير الضرورية إلى الخارج والاجتماعات غير المبررة، أنفق الجزء الآخر لأغراض سياسية خاصة ببعض أفراد النخبة الحاكمة.
وبعد الكشف عن تلك التجاوزات قام الصندوق العالمي في شهر سبتمبر الماضي بتعليق كافة المساعدات المالية إلى أوغندا مؤقتاً. وكرد فعل قامت الحكومة الأوغندية بطرد الفريق المشرف على البرنامج الصحي، وأفراد الهيئة المحلية التي كانت تسهر على البرنامج بما في ذلك جهاز السكرتارية، بل وحتى عمال النظافة. كما قامت الحكومة بتعيين فريق جديد وأنشأت لجنة للتحقيق من أجل معرفة المبالغ المالية التي سرقت، فضلاً عمن قام بذلك، وإلى أين ذهبت تلك الأموال. لذا فعندما قمت هذه المرة بزيارة إلى مكاتب الصندوق العالمي في العاصمة الأوغندية كمبالا خلال شهر فبراير الماضي وجدت على الباب أربعة حراس مسلحين. لكن رغم الشعور بالارتياح النسبي الذي يولده التعامل الجدي للسلطات الأوغندية مع الموضوع، فإنه لا يمكن تجاهل حقيقية تبديد النوايا الدولية التي كانت تهدف إلى مساعدة أوغندا، وأنها قد لا تعود مجدداً.
حيل المسؤولين الحكوميين في القارة الأفريقية في السطو على المساعدات الدولية وتحوليها إلى حسابات خاصة ترتب عليها نتائج وخيمة على برامج مكافحة الأمراض الخطيرة الثلاثة (الإيدز والسل والملاريا)، حيث تبين أن البرامج مازالت متخلفة عن أهدافها المسطَّرة. وعلى سبيل المثال فقد اشتكى مؤخراً أحد المواطنين الأوغنديين في موقع على الإنترنت من أن ابنه الذي يعاني من الملاريا كاد يموت في المستشفى لأن جميع العاملين ذهبوا لحضور ورشة عمل في إحدى المناطق البعيدة. وفي العاصمة كمبالا أطلق الأهالي على المسؤولين الحكوميين الضالعين في فضيحة الاختلاس اسم "أشباح الليل" في إحالة إلى الأساطير الأوغندية التي تؤمن بوجود أشباح تجوب المقابر ليلاً بحثاً عن ضحاياها. والمفارقة أن الهدف من وراء إنشاء الصندوق العالمي هو تحقيق أعلى قدر من الشفافية والفعالية في تقديم المساعدات بعيداً عن المشاكل السياسية التي تنتج عادة عن المساعدات الثنائية، أو البيروقراطية التي ترزح تحت نيرها الوكالات التابعة للأمم المتحدة. وقد تعهد مسؤولو الصندوق عند إنشائه بأن تتم مراقبة المساعدات المالية من قبل الفرقاء المحليين، بمن فيهم المنظمات الحكومية وغير الحكومية. ومن هذا المنطلق قدمت الدول المانحة بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا، فضلاً عن التبرعات الشخصية مثل تلك التي يمنحها "بيل جيتس"، خمسة مليارات دولار إلى الصندوق العالمي لدعم بعض البرامج النموذجية في مناطق العالم المختلفة.
لكن يبدو أن بعض المسؤولين الأفارقة اعتقدوا أن الصندوق العالمي وليمة مفتوحة للجميع. فعندما زرت كمبالا مثلاً قامت لجنة التحقيق باستجواب مدير مركز المحاسبة الأوغندي الذي تلقى 120 ألف دولار من الصندوق العالمي بهدف تدريب المنظمات الأهلية على أساليب الإدارة المالية. وعند قيام لجنة التحقيق بمراجعة الحسابات البنكية تبين أنه بعد يومين من تحويل الصندوق العالمي للمبلغ إلى مركز المحاسبة في مارس 2005، قام هذا الرجل بسحب 33 ألف دولار واشترى لنفسه تذاكر رحلة جوية إلى الصين. والغريب أنه أجاب على أسئلة اللجنة بلامبالاة موضحاً أنه لم يقصد سحب المال من حساب الصندوق العالمي، وأن الأمر قد اختلط عليه بشكل غير مقصود. ولكي يثبت كلامه زود اللجنة بمجموعة من الإيصالات تشير إلى محطات البترول التي تزود منها خلال رحلاته المتعددة في البلاد لحضور ورشات العمل المندرجة في إطار البرامج الصحية. ويشار إلى أنه في أوغندا يتم تسجيل أرقام السيارات لدى كل محطة بترول يتزود منها السائق. لكن بعد التدقيق في إفادة مدير مركز المحاسبة تبين أنه كان يذهب إلى تلك الورش في جرار آلي يعود إلى سنة 1977!
ولا أخفيكم أن ذلك أحزنني كثيرا لأنني شخصيا أحب أوغندا. فقد كانت أول بلد إفريقي يعرف انخفاضاً ملحوظا في معدلات الإصابة بالفيروس المسبب للإيدز، وهو النجاح الذي أنقذ حياة مليون شخص خلال عقد التسعينيات. ورغم الجدال الواسع في إفريقيا حول سبب نجاح التجربة الأوغندية في كبح جماح الإيدز، فإنني أفسر ذلك برده إلى الروابط الإنسانية العميقة السائدة في البلد، فضلا