تشهد الساحة السياسية الإسرائيلية حالة غير مسبوقة في تاريخ تشكيل الحكومات، بعد إعلان نتائج الانتخابات. عادة كانت الأحزاب الفائزة بتمثيل في البرلمان توصي لدى رئيس الدولة بتكليف رئيس الحزب الحاصل على أغلبية المقاعد بتشكيل الحكومة. وبالتالي كانت قيادة الحكومة المزمع تشكيلها دائماً معروفة ومتبلورة أمام الرأي العام والمراقبين خلال ساعات من انتهاء الانتخابات، وتبقى الأمور المعلقة متصلة بالأحزاب التي ستشارك في الائتلاف الحكومي وبتوزيع الوزارات بينها وبالأحزاب التي ستبقى في المعارضة. في هذه المرة تولَّد وضع جديد مختلف، حيث أصبح هناك سيناريوهان محتملان في حالة سيولة وعدم وضوح. السيناريو الجديد يتمثل في محاولة حزب "العمل" الفائز بالمرتبة الثانية بعد حزب "كاديما" للقفز على التقاليد الراسخة وإقناع الأحزاب الفائزة في الانتخابات بأن توصي رئيس الدولة بأن يكلف عامير بيريتس زعيم حزب "العمل" بتشكيل الحكومة وهو الحاصل على 19 مقعداً، بدلاً من إيهود أولمرت زعيم "كاديما" الحاصل على 29 مقعداً. أما السيناريو الثاني فهو السيناريو التقليدي الذي يعمل حزب "كاديما" على تحقيقه، وذلك من خلال إقناع الأحزاب المشاركة بـ"الكنيست"، بتوصية الرئيس تكليف أولمرت بتشكيل الحكومة. إن حسم أحد السيناريوهين رهن بقدرة أحد الحزبين الكبيرين على حشد أكبر عدد من أعضاء "الكنيست" لتأييد تكليف زعيمه بتشكيل الحكومة الجديدة. وبالطبع فإن النجاح في مهمة كسب تأييد الأغلبية لأيهما، يمر بصفقات ومساومات مع الأحزاب الصغيرة سواء في مجال إرضائها سياسياً واجتماعياً أو في مجال وعدها بالوزارات التي تفضلها في الحكومة الجديدة.
معنى هذا أن كلاً من أولمرت وعامير بيريتس سيجدان نفسيهما في حالة ضعف أمام طلبات الأحزاب الصغيرة وطموحاتها، وأن بقاء حالة التنافس الجديدة بين الحزبين الكبيرين ستعني سيطرة أكبر للأحزاب الأصغر على توجيه الحكومة الجديدة، بحكم حاجة رئيسها المكلف الدائمة لتأييد هذه الأحزاب الصغيرة سواء في مرحلة تشكيل حكومته أو في المرحلة التالية لضمان بقائها في مقاعد الحكم لزمن أطول. وهذا ما يفسر حالة التثاقل والدلال التي تمارسها الأحزاب الصغيرة في معظمها وتلكأَها في إعلان تأييدها لأحد الطرفين المتنافسين.
إن البحث عن مفتاح هذه الحالة الجديدة يقتضي الإشارة إلى أنها حالة تتناقض تناقضاً واضحاً مع الاتجاه الذي كان سائداً قبل الإعلان عن نتائج الانتخابات، وهو اتجاه تشكيل حكومة برئاسة أولمرت يشارك فيها حزب "العمل" من اللحظة الأولى. وبالتالي فإن تفسير حالة التنافس الجديدة الراجح يشير إلى أن موضوع النزاع بين "كاديما" وحزب "العمل" هو حول وزارة المالية في الحكومة الجديدة. ذلك أن عامير بيريتس قد أوضح منذ البداية أنه يريد أن يكون وزيراً للمالية ليستطيع تنفيذ برنامجه الاجتماعي الذي وعد به الناخبين لرفع مخصصات الدعم المالي للفقراء ولخدمات الصحة والتعليم وزيادة معاشات المتقاعدين ورفع الحد الأدنى للأجور في الدولة إلى ألف دولار شهرياً. لقد بنى عامير برنامجه الاجتماعي وخطابه للناخبين على أساس معالجة الأوضاع الاقتصادية المجحفة بالطبقات الضعيفة، والتي تسببت فيها سياسات حكومة شارون نتيجة لاتجاه موجة الخصخصة الاقتصادية وتقليص الإنفاق الاجتماعي التي طبقها نتانياهو وزير مالية شارون في الحكومة السابقة.
لقد حاول حزب "كاديما" إغراء عامير بيريتس بوزارة الدفاع بدلاً من وزارة المالية، وهو ما دفع حزب "العمل" إلى الدخول في عملية المنافسة على تشكيل الحكومة وجذب الأحزاب المهتمة بالإنفاق الاجتماعي إلى تأييد تكليفه برئاسة الحكومة، مثل حزب "ميريتس" اليساري (5 مقاعد)، وحزب "يهدوت هتوراه" (6 مقاعد)، وحزب "المفدال" الديني (9 مقاعد) وحزب "إسرائيل بيتنا" الممثل للمهاجرين الروس (11 مقعداً).. وذلك لتكوين حكومة بزعامة عامير بيريتس تضع الأولويات الاجتماعية في رأس سلم اهتماماتها تحت اسم "حكومة طوارئ اجتماعية".
أيام قليلة أو ساعات ستكشف عن ترجيح أحد السيناريوهين رغم أن تقديري الشخصي يرجح أن يتوصل "كاديما" مع "العمل" إلى حل وسط يمكن أولمرت من تشكيل الحكومة. ولننتظرْ لنرى.