نحن اليوم نخوض حربنا الثالثة في العراق منذ عدة سنوات. كانت الحرب الأولى ضد صدام حسين وأسلحة الدمار الشامل المفترضة، ثم أصبحت فيما بعد حرباً ثانية عندما قررنا التصدي للإرهاب والإصغاء لما قالته الإدارة وقتها من أنه يجدر بنا محاربة الإرهاب في عقر داره بدل الاضطرار إلى مواجهته فوق أراضينا. وأخيرا تحولت الحرب إلى اقتتال أهلي متصاعد أصبح فيه جنودنا أسرى العنف الطائفي المتفشي في العراق. ويجدر التذكير هنا بأن نصف المجندين الأميركيين الذين قضوا في حرب فيتنام والذين مازالت أسماؤهم محفورة على جدران تخلد ذكراهم في واشنطن قتلوا بعد أن أدرك القادة في أميركا أن استراتيجيتنا في فيتنام تتجه صوب الفشل. ولاشك أن معرفة السياسيين الأميركيين بالخطر الماحق في فيتنام مع عدم امتلاك الشجاعة الكافية لوقف الحرب كان إفلاساً أخلاقياً مريعاً من جانبهم، وسيستمر ذلك الإفلاس الأخلاقي إذا بقينا متمسكين بأوهامنا في العراق. فلا يمكننا إرساء الديمقراطية كما نحاول جاهدين اليوم دون أن يحرص العراقيون أنفسهم على إرساء دعائمها وتوفير الظروف الملائمة لها كي تنمو وتزدهر في التربة العراقية. كما لن يستطيع جنودنا لوحدهم تعزيز الديمقراطية في بلاد الرافدين إذا كان القادة العراقيون غير مستعدين لإجراء التسويات الضرورية التي تتطلبها الديمقراطية.
وكما عبر عن ذلك كبار جنرالاتنا، لا تستطيع الولايات المتحدة حسم الحرب عسكرياً، بل نحن في حاجة إلى حسمها سياسياً. وفي هذا الإطار يجب أن يدرك الساسة العراقيون أنه لن تتم التضحية بحياة جندي أميركي واحد ما لم يتمكن الفرقاء السياسيون في العراق على اختلاف مشاربهم السياسية والعرقية والطائفية من تسوية صراعاتهم والتوصل إلى اتفاق يضمن مشاركة سياسية للجميع ويقود إلى انبثاق حكومة وحدة وطنية تنهي بوادر الحرب الأهلية الوشيكة. لكن يبدو أن السياسيين العراقيين لم يستجيبوا في السابق سوى للمواعيد النهائية، فهم احترموا موعد نقل السلطة إلى الحكومة العراقية المؤقتة، كما أوفوا بمواعيد عقد الانتخابات الثلاثة السابقة. وإذا كان الأمر كذلك مع قادة العراق الجديد فعلنا أن نضع أمامهم موعداً جديداً ونهائياً يقضي بسحب قواتنا ومؤازرة العراق ليقف على رجليه ويستغني عن المساعدة العسكرية الأميركية. ويمكن تحقيق ذلك عن طريق إخبار السياسيين العراقيين بأن أمامهم مهلة تمتد إلى غاية 15 مايو المقبل من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية فعالة تسهر على تدبير شؤون البلاد وإخراجها من الفراغ السياسي والفوضى الأمنية التي تنخر أوصالها، وإلا فإن الولايات المتحدة ستعمد إلى سحب قواتها فورا من العراق. فإذا لم يستطع العراقيون تشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع بين كافة ألوان الطيف العراقي خلال الخمسة أشهر التي أعقبت الانتخابات، فإنهم على الأرجح غير مستعدين لتشكيلها على الإطلاق. وفي تلك الحال ستستعر نار الحرب الأهلية ويشتد أوارها بحيث لن يبقى من خيار أمامنا سوى مغادرة العراق وترك العراقيين يتدبرون أمورهم وسط العنف المستشري وفي غياب زعامة سياسية قوية قادرة على فرض حكم القانون وإنهاء الفوضى.
وإذا ما نجحت المهلة في تسريع عملية تشكيل الحكومة وحل المأزق السياسي الموجود في العراق، فإنه سيتوجب علينا وضع موعد آخر يتعلق بسحب قواتنا المسلحة بحلول نهاية السنة الجارية. فمجرد إعلان الإدارة الأميركية عن عزمها مغادرة العراق وتحديد موعد لذلك من شأنه أن يدعم موقف القيادة العراقية الجديدة لدى الشعب ويسهل عليه عملية إدارة البلاد والانصراف إلى حل الأزمات المستفحلة وتوفير الخدمات الضرورية للمواطن العراقي. كما أن الإعلان عن مغادرة القوات الأميركية للعراق سيسحب البساط من تحت أقدام التمرد ويفقده الكثير من مصداقيته التي يحظى بها اليوم نظرا لرغبة السواد الأعظم من العراقيين مغادرة القوات الأميركية لبلادهم. وبالطبع لن يظل في العراق سوى جزء قليل من القوات التي ستتولى استكمال تدريب قوات الجيش والأمن العراقيين وتزويدها بالخبرات اللازمة لأداء مهامها.
ولكي ينجح هذا الانتقال من حال الفوضى والتعثر السياسي الذي يعيشه العراق إلى حال أفضل من استتباب الأمن والاستقرار الذي سيأتي مع تشكيل حكومة الوحدة الوطنية علينا أن ننخرط في نشاط دبلوماسي جاد ومكثف. لذا علينا أن نبدأ فورا بجمع الفصائل العراقية المختلفة والقوى السياسية المتباينة تحت مظلة قمة تشبه ما تم في اتفاقات "دايتون". ففي اجتماع محايد وبعيد عن الضغوط السياسية سيتمكن العراقيون عبر عملهم الدؤوب مع حلفائنا وأطراف أخرى مثل الجامعة العربية والأمم المتحدة من التوصل إلى اتفاق سياسي يوفر ضمانات سياسية لكافة الأطراف، فضلا عن تفكيكه للمليشيات والاتفاق على الأهداف المشتركة لعملية إعادة الإعمار. ولكي تنجح المساعي الدبلوماسية لا مفر من ممارسة بعض الضغوط على القادة العراقيين لإجبارهم على مواجهة الواقع المتردي الذي ينتظرهم في حال الفشل كأن تتم إعادة نشر القوات الأميركية في العراق وتجميعها في ثكنات ب