لقد حرصت في سلسلة مقالاتي الأخيرة أن أعرض لتقييم جوانب الإصلاح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما وردت في تقرير مرصد الإصلاح العربي بمكتبة الإسكندرية عام 2005، وقد تركت هذه المقالات أصداء إيجابية لدى عديد من الخبراء والمثقفين، وبدأت طلائع مناقشة نتائج المرصد، فيما نشر مؤخراً من ملاحظات نقدية على بعض التحليلات والنتائج. ونرى أن هذه علامة إيجابية، فمن خلال الحوار النقدي نستطيع أن نصل إلى الحقيقة. وخبراء المرصد جميعاً بحكم التدريب الأكاديمي الذي حصلوا عليه منذ سنوات، وبحكم قيم التنشئة العلمية التي مارسوها، يرحبون بنقد أعمالهم ويرون في ذلك إضافة إيجابية للمعرفة.
ونريد اليوم أن نعرض لصعود المجتمع المدني العربي. وهذه العملية البالغة الأهمية لها علاقة وثيقة بصعود وسقوط الشمولية والسلطوية في العالم العربي. فمن المعروف تاريخياً أنه منذ الخمسينيات التي شهدت استقلال عديد من الدول العربية، تأسست الدول الوطنية متحررة من قيود الاستعمار. بعض هذه الدول كان لديها ماضٍ ديمقراطي وليبرالي ولذلك واصلت مسيرتها الديمقراطية وإن كان في سياق جديد متحرر من ضغوط الاستعمار، وذلك مثل تونس والمغرب والعراق وسوريا ومصر. وبعض هذه الدول قطعت مسيرتها الديمقراطية انقلابات عسكرية كما حدث في انقلاب 23 يوليو 1952، والذي سرعان ما تحول إلى ثورة بحكم مشروع النهوض الاجتماعي الشامل الذي تبناه الضباط الأحرار، وحدثت انقلابات مشابهة دول عربية أخرى.
وقد أدت هذه التغيرات الجسيمة في بنية النظم السياسية العربية إلى تجميد مؤسسات المجتمع المدني. غير أن عمليات التحول الديمقراطي في عديد من البلاد العربية في العقود الماضية أدت إلى إحياء مؤسسات المجتمع المدني بصورة غير مسبوقة، وساعدها في ذلك ظهور المجتمع المدني العالمي بتأثير العولمة بتجلياتها المختلفة.
وقد عرض الأستاذ أيمن عبدالوهاب خبير العلوم السياسية والمسؤول عن المجتمع المدني في مرصد الإصلاح العربي لكل هذه التطورات، من خلال معرفة عميقة بالموضوع. وجاءت دراسته في كتاب المرصد المنهجي بعنوان "المجتمع المدني العربي: السمات العامة وإشكاليات الفاعلية".
وهو في صدر دراسته يشير إلى أن عملية إحياء المجتمع المدني العربي تنطوي على طرح عديد من القضايا الشائكة، وفي مقدمتها إعادة النظر في العلاقة بين الدولة والمجتمع. وهو يحدد في هذا المجال ثلاث إشكاليات رئيسية. الإشكالية الأولى تتعلق بصعوبة قياس حجم الإسهام الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لمؤسسات المجتمع المدني. والإشكالية الثانية تتعلق بدور المنظمات في تعظيم قدرات الدولة ومواردها عبر دورها الخدمي والرعائي ودعمها لعمليتي المشاركة والتوزيع في المجتمع، لتساهم بذلك في إضفاء المزيد من الشرعية على النظام السياسي وتدعيم أركانه.
أما الإشكالية الثالثة والأخيرة فهي تتعلق بما أفرزته سياسات الدمج الوظيفي والهيكلي الحكومية تجاه المنظمات الأهلية من نتائج، أبرزها هشاشة المجتمع المدني العربي نتيجة للقيود العديدة التي تفرضها الدول على أنشطة المؤسسات غير أنه يمكن القول إن دور مؤسسات المجتمع المدني بدأ يتصاعد مع تعمق عملية التحول الديمقراطي العربي والتي تستند في الواقع إلى جناحين: مطالب الداخل وضغوط الخارج، وقد حرص الأستاذ أيمن عبدالوهاب على تقديم عرض متكامل لمفهوم المجتمع المدني وتطوره قبل أن ينتقل إلى بيان خصائصه.
غير أن الإسهام البارز الذي قدمه هو اقتراح مجموعة من المؤشرات والمعايير الدولية التي يمكن من خلالها قياس حدود فاعلية وقوة أي مجتمع مدني، مستنداً في ذلك إلى التراث العلمي العربي المعاصر في الموضوع.
المؤشر الأول هو مؤشر المؤسسية، لأن السمة المؤسسية هي أحد أبرز مؤشرات وجود مجتمع مدني قوي، وتتحدد هذه السمة وفقاً لتوافر أربعة معايير أساسية للحكم على مدى التطور الذي بلغته مؤسسة أو منظمة ما وهي: القدرة على التكيف في مقابل الجمود، والاستقلال في مقابل التبعية والخضوع، والتركيب في مقابل الضعف التنظيمي، والتجانس في مقابل الانقسام. أما المؤشر الثاني فيكاد يكون أهم المؤشرات قاطبة، فهو المؤشر القانوني والسياسي حيث يدور البحث حول الإطار القانوني السياسي بما يتضمنه من قواعد قانونية وسياسية توفر الضمانات اللازمة لحركة ونشاط منظمات المجتمع المدني. وذلك لأن وجود قواعد قانونية ودستورية تكرس سياسات التعددية السياسية والفصل بين السلطات واحترام القضاء وتعمل على تفعيل المشاركة الشعبية في صناعة القرارات على المستويات المختلفة، يساعد على تكثيف الممارسة السياسية من جانب التنظيمات الأهلية، من ثم زيادة هامش حركتها في المجتمع. والمؤشر الثالث هو المؤشر الثقافي وهو يرتبط بالإنتاج الفكري للمجتمع المدني والمتمثل في نظام القيم التي يعتنقها، ولاسيما قيم الاستقلالية الفردية والحرية الشخصية ونمط العلاقات الإنسانية.
وهناك علاقة وثيقة بين ترسيخ قواعد الديمقراطية في مجتمع ما وضرورة الارتقاء بالثقافة السياسية ف