أحسن الرئيس الفلسطيني محمود عباس عندما فصل بين موقفه إزاء برنامج حكومة "حماس"، وحق هذه الحكومة في مباشرة عملها. كان في إمكانه أن يستند على نقد قوي وجهته اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير إلى هذا البرنامج، لتعطيل تولي أصحابه السلطة، باعتبار أن المنظمة هي مرجعية هذه السلطة وفق القانون الأساسي الفلسطيني. ولكن عباس المستقيم في أدائه وتعاملاته احترم الاختيار الديمقراطي للشعب الفلسطيني، وهو أثبت بذلك أنه رئيس من طراز فريد في منطقة تعز فيها الثقافة الديمقراطية وتقل الممارسات التي تعبر عن احترام اختيارات الشعوب. ولكن الأهم من ذلك أنه قدم نموذجاً نرجو أن تقتدي به حكومة "حماس" ليس فقط في العلاقة معه، ولكن أيضاً في طريقة إدارتها لوضع فلسطيني شديد التعقيد لا يتحمل مغامرات سياسية.
وأول ما يجدر بحركة "حماس" مراجعته، سلوكها منذ انعقاد المجلس التشريعي الجديد. فقد أظهرت شهوة للسلطة وافتقدت المرونة اللازمة في تقدير الموقف على المستوى الداخلي وعلى صعيد الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وأبعاده الدولية.
احتكر نواب "حماس" في المجلس التشريعي مناصب هيئة المكتب جميعها، وأسقطوا تقليداً حضارياً في المجلس السابق، وهو أن يكون أحد نواب رئيسه مسيحياً. وجاءت حكومة إسماعيل هنية كلها من لون واحد هو "لون حماس" الأخضر. فالمستقلون في هذه الحكومة تربطهم بالحركة صلات من القوة إلى الحد الذي يجيز اعتبار معظمهم أعضاء غير مسجلين فيها.
صحيح أنه كان في "فتح" من رفضوا أي مشاركة في حكومة تقودها "حماس". ولكن لم يكن هؤلاء وحدهم الذين أبعدوا "فتح" عن هذه الحكومة، وإنما ساعدهم في ذلك بعض قادة "حماس" الأكثر تشدداً الذين سعوا منذ اللحظة الأولى إلى حكومة "حمساوية" خالصة.
لم يكن في إمكان متشددي "فتح" قطع الطريق على حكومة وطنية لو أبدى متشددو "حماس" قدراً من المرونة. ولكن هؤلاء أحبطوا المفاوضات الائتلافية عندما ردوا على كل مطلب أو اقتراح قدمه مفاوضو "فتح" إما برفضه أو بإعادة صوغه لتفريغه من مضمونه أو جعله فضفاضاً أو إضفاء شيء من الغموض عليه.
وحتى "الجبهة الشعبية" التي كانت راغبة في المشاركة، بل متحمسة لها، لم يوفر لها متشددو "حماس" الفرصة. فقد رفضوا إعادة صوغ البند الخاص بمنظمة التحرير في برنامج الحكومة لينص على أن هذه المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
وهكذا وجهت "حماس" من حيث لا تدري رسالة سلبية إلى كل من توقع أن يكون أداؤها أفضل والتزامها شعار "مشاركة لا مغالبة" أقوى.
وليس هذا هو موقف قادة "حماس" وكوادرها جميعهم، فبينهم من هم أكثر مرونة وأوفر إيماناً بهذا الشعار. ولكن المشكلة في الحركات السياسية ذات الطابع العقائدي أن المتشددين فيها هم الأكثر تأثيراً على قرارها في كثير من الأحيان. وإذا بقي هذا الوضع قائماً في حركة "حماس" ستكون خسارتها كبيرة. ولكن خسارة فلسطين شعباً وقضية ستكون هي الأكبر. فنجاح الانسحاب من قطاع غزة خلق مزاجاً في إسرائيل يميل إلى اعتماد المنهج أحادي الجانب طريقاً إلى فرض حل نهائي وترسيم حدود إسرائيل.
هذا المنهج هو أخطر ما يواجه قضية فلسطين اليوم، ويهددها بتصفية نهائية إذا أقره المجتمع الدولي. وإذا لم تفطن حكومة "حماس" إلى ذلك، ربما لا يكون صعباً على أصحاب المنهج الأحادي في إسرائيل إقناع المجتمع الدولي وقواه الرئيسة، بما في ذلك أوروبا وروسيا، بأنه لا حل آخر بدعوى أن هذه الحكومة هي التي تغلق أي طريق إلى تسوية تفاوضية. والسيناريو المرجح، في هذه الحالة، أن تبدأ الحكومة الإسرائيلية الجديدة عقب تشكيلها بإعلان رغبتها في التفاوض مع التشكيك في إمكان وجود شريك فلسطيني بذريعة أن حكومة "حماس" لا تعترف بإسرائيل. وبدون مرونة في موقف هذه الحكومة، سيكون في إمكان أنصار الحل الأحادي في إسرائيل تحقيق هدفهم في فرض تسوية من جانب واحد مستخدمين في ذلك موقف الحكومة الفلسطينية ذريعة لدى المجتمع الدولي.
ومع ذلك، ما زال في الإمكان السعي إلى إبطال هذه الذريعة عبر اتخاذ موقف لا يكلف "حماس" شيئاً يذكر، ولا يفرض عليها التراجع عن ثوابتها. كل ما هو مطلوب منها أن تعلن أنها كحكومة، تعمل في ظل نظام سياسي يتسم بالاستمرارية وتلتزم بالالتزامات الدولية لهذا النظام. وحين تعلن ذلك، فهي لا تأتي بجديد من لدنها، وإنما تقرر أمراً واقعاً يحدده القانون الدولي، وهو أن تغيير الحكومة في أي بلد لا يؤثر على التزاماته الدولية.
وهذا معطى من معطيات العلاقات الدولية التي لابد أن تدب فيها فوضى عارمة، إذا كان من حق كل حكومة جديدة أن ترفض ما التزمت به الحكومة السابقة تجاه الغير. ولا تستقيم العلاقات الدولية إذا أبطلت كل حكومة جديدة في إحدى هذه الدول ما أبرمته الحكومة السابقة.
فالالتزام بالاتفاقات والمعاهدات، إذاً، لا يحتاج إلى قبول ولا يمثل تنازلاً، وليس مطلوباً، بالتالي من "حماس" -الحركة والحكومة- تقديم تنازل كبير. كل ما هو مطلوب هو أن تنتبه إلى الخطر الفادح الذي سيترتب على نفورها من إبداء أي مرونة