شهد عدد من العواصم العالمية في الثامن عشر من مارس تظاهرات منددة بالحرب على العراق، بما فيها تورنتو. في ذاك اليوم، كنت عند الحلاق ليقص لي شعري، وقد كان من الإيكوادور ويقيم في كندا منذ أربعة أعوام. قال لي: "الكنديون يعملون على إحلال السلام، ونحن لا نحارب". لقد ذهلت حقاً إذ لم يمض على مقامه هنا سوى أربعة أعوام، وها هو يتحدث ككندي أصلي. والحقيقة أنني أرجح أنه تعلم ذلك في دروس المواطنة.
في 1956، اقترح وزير خارجية كندا -ورئيس الوزراء لاحقاً- "ليستار بي. بورسون" إرسال قوة لحفظ السلام للتعاطي مع أزمة قناة السويس. وعرفانا له بمجهوداته، مُنح "بورسون" جائزة نوبل للسلام، ومنذ ذلك الحين يبدو أن الكنديين عشقوا الصورة التي تصورهم على أنهم محبون للسلام، ومستعدون لتقديم العون، وينجحون في إقناع الجميع من دون إطلاق رصاصة واحدة. وقد تكرست أضغاث الأحلام هذه أكثر في عهد "بيير تريدو" الذي رحب بالمتملصين من التجنيد، وسعى إلى تقديم نفسه على أساس أنه "مُواطن العالم".
إلا أن أضغاث الأحلام هذه تواجه اليوم محكاً حقيقياً، فخلال الأشهر الأولى من سنة 2006، ارتفع عدد القوات الكندية في أفغانستان (المرابطة هناك منذ 2002) إلى 2300 رجل، والواقع أن هذا العدد يعكس بمقاييسنا التزاماً كبيراً من جانبنا. هذا وتعتبر القوات الكندية المرابطة في أفغانستان جزءاً من القوات متعددة الجنسيات التي تخوض المعركة المتواصلة ضد فلول "طالبان" العنيدة، وتهدف إلى تأمين الديمقراطية الأفغانية الفتية. ونتيجة لذلك، يفترض المرء، بالنظر إلى دور الجنود المعروف في العالم وبالنظر إلى بطش العدو في هذه الحالة، أن الكنديين سيفهمون أن الإصابات حتمية، أكانت مدنية أم عسكرية.
إلا أن نظرة سريعة في العناوين الرئيسية للصحف الكندية تعكس واقعاً محزناً، وهو أن الكنديين يعيشون في عالم من الأحلام، وهم في حاجة إلى من يوقظهم من سباتهم. وإليكم بعض الأمثلة على ما نُشر على صدر الصفحات الأولى من الجرائد الكندية: "المزيد من الأخطار تواجه قواتنا"، "توقع تعرض القوات الكندية للخطر"، "وزارة الدفاع الوطني: لا مناص من سقوط قتلى كنديين في أفغانستان"، "يوم عصيب على الكنديين بعد الانفجارات في أفغانستان". في التلفزيون كما في الراديو، باتت النقاشات حول ما إن كان ينبغي "تعريض قواتنا للخطر" مألوفة. ولكن، أليس من المسلَّم به أن الجنود، أي جنود، معرضون للخطر؟ إلا أن الصحف الكندية تعمد إلى نشر تفاصيل مقتل الجنود، كيفما كانت أهميتها، (قُتل حتى الآن أحد عشر جنديا كنديا، أربعةٌ منهم بسبب نيران معادية، وثلاثة في حوادث، وأربعة بسبب نيران صديقة) وتحليلها وإفراد تغطيات استثنائية لها، علاوة على استغلالها من قبل السياسيين والمعادين للسياسة الأميركية.
واللافت أن مقتل الجنود ليس وحده ما يثير كل هذه الجلبة، فعندما قتلَ جنود كنديون مدنياً أفغانياً في نقطة تفتيش منتصف شهر مارس، أثار الحادث موجة تأنيب ذاتي في كندا، وطالب البعض عائلة الرجل القتيل بالانتقال إلى كندا، وبأن يتم دفع ثمن تعليم أطفاله الستة. حتى الآن لم يتحقق هذا الحلم، غير أن ثمة من الكنديين من يعتقد أنه من الواجب القيام بذلك. والحال أننا لو أحضرنا عائلات كل مدني ألماني قتله الجنود الكنديون في الحرب العالمية الثانية إلى هنا، لربما كنت سأكتب هذا المقال باللغة الألمانية. (للإشارة، فقد لعبت كندا دوراً غير مسالم في تلك الحرب).
وفي وقت يتواصل فيه مقتل المدنيين والجنود، ينبغي على كندا أن تتعلم كيفية التعاطي مع الواقع الصعب. ففي كل مرة يُقتل فيها أحد الجنود الكنديين، يثير الأمر موجة من استطلاعات الرأي. وقد أشار أحدها إلى أن 62 في المئة من المستجوبين لا يؤيدون مشاركة القوات الكندية ضمن القوات متعددة الجنسيات بأفغانستان، عندما تمت الإشارة إلى أننا هناك في وضع "حرب". ولكن، هل نسينا أن مواطنين كنديين قُتلوا في الحادي عشر من سبتمبر؟ وأننا ضمن قائمة الدول المستهدفة التي وضعها أسامة بن لادن؟ الواقع أنه لو لم يكن الأمر مخيفاً، لكانت حقيقة أن بلداً فوجئ لأن جيشه قد يشارك في شيء خطير وعنيف مثيرة للضحك؟
بل وينمُّ عن نفاق، فالحفاظ على السلام هو أولاً وقبل كل شيء جنود يسعون إلى جلب سلام نسبي والحفاظ عليه. وربما يجدر التذكير في هذا السياق أن أكثر من 100 جندي كندي لقوا حتفهم في عمليات حفظ السلام خلال السنوات الخمسين الماضية، بعضها بسبب نيران معادية. إلا أن أياً من تلك النزاعات لم تحظ بنفس القدر من الاهتمام الإعلامي والسياسي مثل أفغانستان، وهو ما يفسر غياب رد فعل الجمهور حينها. أما في منطقة البلقان لوحدها، فقد قُتل ما لا يقل عن عشرين جندياً كندياً. لماذا التفاوت؟ لأن الجنود المشاركين في "مهمات حفظ السلام" لم يموتوا في "حروب" –رغم أن ذلك هو واقع الحال في الأمر الواقع.
في 2005، حذر مسؤولون عسكريون كنديون من أن القوات الكندية تعاني قلة الدعم المالي. إلا أن تلك المشكلات، تعتبر، على أهميتها، هينة مقا