في مكتب جون جاروفي للهجرة في مدينة مونتريال لفت نظره كتاب بين يدي بعنوان "روح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية". كنت أظنه مهتما بمال المهاجرين أكثر من عقولهم، ولكنه ضابط هجرة سابق يتفحص عقائد وميول القادمين، و"يشمشمهم" مثل كلب حراسة أمين للثقافة الكندية، مع تدفق المهاجرين من جمهوريات الخوف والبطالة.
وهذا الكتاب الذي ترجم إلى العربية وكنت أقرؤه بنسخته الإنجليزية أثار عندي السؤال الذي كان يطرحه مالك بن نبي عن سر الفعالية في المجتمعات الغربية، وقال إن أولادنا الذين يذهبون للغرب هم في عمومهم أحد فريقين، من يدلف إلى مقابر الحضارة، أو يسقط في مزابل الحضارة. أي من عاش سنوات تخصصه في المخابر، أو من رأى بيوت الإباحية بدءا من مطار فرانكفورت حتى مراكز التصنيع في كيل عند بيآتي (Beate)، والحضارة ليست هذا ولا ذاك، مثل من دخل منزلا فركض إلى دورة المياه، أو أعجب بالمطبخ، ولم ينتبه إلى تلك الغرفة المليئة بكتب المعرفة، أو ذلك الديكور الأنيق ينتظم بناء المنزل كله، بلمسات فنية تنعش فنانة تشكيلية.
وماكس فيبر هو أحد العمالقة العظام الذي اكتشف ذلك الناظم بين (الأخلاق) و(العمل)، وهو في ثلاثيته المعروفة في الكتاب يضع يده على أحد أهم الأسرار في نهضة الغرب، فحيث انتشرت البروتستانتية انفجرت الرأسمالية، ويقول إن مثلث أو شرارة الانبعاث تكمن في: روح المبادرة، وتقديس العمل، واعتماد مبدأ الربح. وهي ثلاث قيم أنهكت الغرب مع تسلط الكثلكة، ولم يكن الغرب حسب وجهة نظره لينهض لو أن البابا والكنيسة الكاثوليكية بقيمها المعاكسة بقت تمسك بتلابيب أوروبا؛ من تقديس الزهد والفقر، والتواكل في عقيدة فاسدة لفهم العمل الإلهي والبشري، والنظر إلى الربح على أنه عمل غير صالح.
وأعترف شخصيا بأن كلمة مبادرة لفتت نظري حينما كنت أعمل في مدينة "فيلهلمسهافن" وهي مدنية في الشمال الألماني مكونة من كلمتين هافن بمعنى المرفأ، والأولى نسبة للقيصر فيلهلم الذي يترجم اسمه للعربية خطأ القيصر غليوم.
كنت أختص في مشفى كبير اسمه "راينهارد نيتر" بإشراف البروفسور بوركهارات، قال لي: دكتور "يالبي= Jalabi" حيث إن حرف "جي" باللغة الألمانية يصبح (يوت) ويلفظ الاسم "يالابي"، قال: أريد منك روح المبادرة (intiativ)، وهي كلمة لا أنساها، وفهمت سرها عند عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في كتابه عن كشف السر في انبثاق الرأسمالية حيث سرت روح الإصلاح الديني. وفي مدينة الدمام في السعودية وبينما أنا أشتري سندويشة شاورما، انفجر صوت هائل لم نعرف مصدره، صاح البائع الشامي: ما دخلنا. (أي لا دخل لنا فيما حدث)، يومها أدركت معنى الأمثلة الشعبية واعتماد جمل معينة في الحديث العامي لأنه روح الثقافة، وتذكرت برنامج تتبع المجرمين الذي كان يخرج كل أسبوعين في التلفزيون الألماني، وكيفية الكشف عنهم من خلال مواطن له (دخل) وانتماء للمجتمع الذي يعيش فيه، وليس مثل بائع الشاورما الذي صاح أنه لا يعنيه أي شيء سوى عمله وجيبه.
وهذه الأيام تعاد ذكرى هذا الرجل وهو أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث الذي لم يعمر طويلا على عادة المبدعين الذين يحترقون بسرعة، أو ربما بداعي تأخر الطب، فهو ولد عام 1864 ومات عام 1920 أي عاش 56 سنة، ولكنه ترك خلفه إرثاً هائلا، فلا يمر باحث في علم الاجتماع بدون ذكر هذا المبدع، وكتابه الذي ذكرت جدير بالاطلاع، واليوم ظهر إلى السوق كتاب من 1008 صفحات في دراسة سيرته الذاتية على يد باحث ألماني هو "يو آخيم رادكاو" بعنوان "ماكس فيبر.. محنة الفكر".
ولكن المثير فيه أنه سلط الضوء على سر جديد من بوابة مختلفة لفهم شخصية هذا المبدع، هذه المرة من بوابة (الجنس)، فالرجل عاش في ثلاث مراحل حسب تحليله: (الأولى) سماها اغتصاب الطبيعة، حيث عانى من اضطهاد أمه وزوجته.
ثم (المرحلة الثانية) وسماها انتقام الطبيعة، حيث رد على هذا الحرمان بأشد فدمر عاطفيا تدميرا.
ثم كانت (المرحلة الثالثة) حين انطلق وأشرقت شمسه، فأشبع عاطفيا، وتدفقت عبقريته، أمواجا من الحكمة، وهو شاهد عجيب على أثر المرأة في التاريخ.