أكدت رسومات الكارتون الدانمركية والأزمة الدولية التي تسببت بها، والمتمثلة في استمرار ردود الفعل العربية الإسلامية الغاضبة، أمورا عدة لم تكن مجهولة من قبل. أكدت أن جزءا مهما من إشكالية علاقة العرب مع الغرب يعود إلى جذور دينية لدى طرفي الإشكالية. وأكدت أن الدين، والمقدس الديني تحديدا، قابل للاستخدام والتوظيف السياسي، بل تم توظيفه سياسيا، خاصة من قبل بعض الحكومات العربية، والحركات الإسلامية. ما حصل من أعمال شغب، وحرق للسفارات، وإتلاف للممتلكات في بعض العواصم العربية، ثم مشاركة شيخ الأزهر في مظاهرات القاهرة بعد غرق العبَّارة المصرية. هذا توظيف واضح للدين في قضايا سياسية لا علاقة لها بموضوع الرسومات. توظيف "حزب الله" اللبناني للقضية ذاتها لتحقيق مكاسب سياسية في إطار الأزمة اللبنانية مثال آخر هنا. وآخر مظاهر هذا التوظيف كان المؤتمر الأخير في البحرين.
في كل ذلك أكدت أزمة الرسومات التباس علاقة الحكومات العربية بالخطاب الديني، وبالجماهير بشكل عام. أيهما يمسك بزمام الشارع؟ الدولة أم الخطاب الديني؟ هل الحكومات العربية هي التي عليها أن تساير الخطاب الديني؟ أم العكس. مسار الأحداث منذ بداية الأزمة يشير إلى أن الشارع العربي يخضع لهيمنة الخطاب الديني، ولتأثير الحركات والجماعات الإسلامية أكثر من خضوعه لشيء يسمى خطاب الدولة. الحكومات العربية لا تملك مثل هذا الخطاب لتجاري به، أو تبز الخطاب الديني وخطاب الحركات والجماعات الإسلامية. من هنا أصبح الشارع لا يخضع تماما للسلطة الثقافية للدولة، وبالتالي أكثر عرضة لمؤثرات الخطاب الديني. لذا يمكنك القول بأن الحكومات العربية إما وظفت الدين في هذه الأزمة لمصلحتها السياسية، أو وجدت نفسها، بحكم سطوة الخطاب الديني، مجبرة على مجاراة هذا الخطاب. وكلتا الحالتين تشير بوضوح إلى ضعف الدولة.
عبرت الحكومات العربية عن موقفها من الرسومات الدانمركية من خلال الدين، وما يفرضه من احترام للمقدسات. لكنها تجاهلت مسألة حرية التعبير، البعد الآخر في أزمة الرسومات. وهذا طبيعي لأن حرية التعبير بالنسبة للحكومات العربية ليست من أولوياتها. والغريب أن موقف الشارع نفسه غير آبه لتجاهل الحكومات لهذه المسألة. هو أكثر استجابة لشعارات ونداءات حماية المقدس، أكثر منه لحماية حقه في حرية التعبير. كيف يمكن حماية المقدس في غياب حماية حرية التعبير؟ بل ماذا تعني حماية أحدهما على حساب الآخر؟
هنا مفارقة تقترب من حدود المأزق. اتفاق في الظاهر بين الحركات الإسلامية والحكومات العربية من ناحية، يتمثل في رفض انتهاك المقدسات الإسلامية. الاتفاق هنا ليس اتفاق اختيار، وإنما فرضته ظروف الواقع على الجميع. من ناحية أخرى، هناك افتراق في العمق لما هو أبعد من ذلك. الحركات والجماعات الإسلامية لم تصل بعد إلى وضع يسمح لها بأن تكون، أو أن تفرض نفسها بديلا لا مناص منه للدولة. تستطيع أن تنافس الدولة، وأن تحرجها أحيانا، وأن تفوز في الانتخابات البلدية والبرلمانية. لكنها لم تصل بعد لأن تكون بديلا للحكومات القائمة. من ناحية أخرى، رغم أن الحكومات قوية أمنيا، بحكم احتكارها لأجهزة الدولة، إلا أنها ضعيفة سياسياً أمام الخطاب الديني. نقطة الالتقاء الوحيدة بينهما في الأزمة الحالية هي حماية المقدسات. تستخدم الحكومات موضوع المقدسات في هذه الأزمة بأمل توسيع مساحة شرعية هي في أمسِّ الحاجة إليها. من ناحيتها تستخدم الحركات والجماعات الإسلامية حرمة المقدسات للضغط على الدولة، لتوسيع هامش حركتها، وهامش حريتها هي، دون سواها. كلاهما غير معني بمسألة حرية التعبير كمبدأ، وكحق للجميع، قبل وبعد أزمة الرسومات. والشارع هو المساحة التي تدور في داخلها هذه اللعبة السياسية. والأغرب أن هذه القضية تحديدا لم تفرض نفسها كموضوع للنقاش والتساؤل.
الطريقة التي تفاعلت بها إشكالية حرية التعبير مقابل المقدس الديني مع دور الحكومات العربية والأوروبية في الأزمة. والذي يهمنا بشكل أساسي في القضية الأخيرة هو دور الحكومات العربية مقابل دور الخطاب الديني وعلاقة كل منهما بموقف الشارع. هاتان قضيتان متداخلتان، وترتبط أهمية دور كل منهما بعلاقتها مع القضية الأخرى.
عندما نأخذ قضية حرية التعبير في مقابل المقدس في الأزمة الحالية ينبغي أن نلاحظ مباشرة أنها قضية دولية، وليست قضية محلية في إطار دولة أو مجتمع بعينه. هذا يعني أن القيم والمعايير التي تمثل مرجعية لهذه القضية ليست واحدة لدى كل الأطراف، وإنما مختلفة. مرجعية الدانمركيين، والأوروبيين بشكل عام، في مسألة حرية التعبير وعلاقته بالمقدس هي مرجعية علمانية. والعلمانية هنا لها جوانب وأبعاد ثقافية وقانونية وسياسية، بمعنى أنها شاملة لحياة المجتمع، وموجهة لها.
وهي مرجعية تعود إلى عصر النهضة والتنوير قبل أكثر من ثلاثة قرون من التاريخ الأوروبي الحديث. في هذا الإطار جاء مفهوم الحرية ليقضي على هيمنة الكنيسة والفكر الديني الكنسي الذي كان، ولا يزال، بطبيعته مناهضا للحرية بجميع أش