هناك وجهات نظر أوروبية عديدة تشير إلى أن السِّر الذي يقف وراء هذا التقدم المذهل للتعليم في فنلندا، لا يعود إلى تميّز في البنى التحتية المدرسية، أو تطور المناهج التعليمية بدرجة تفوق ما عداها من الدول الغربية، ولا أيضا تطور أنظمة الاختبار والتقييم العلمي، ولا حتى التخطيط المنهجي للتعليم، ولكنه يعود بالأساس إلى التركيز الهائل على تأهيل المعلمين، وكذلك على الدعم الرسمي الذي يوفر هوامش حرية للمعلمين، الذين يتم انتقاؤهم وفق معايير وشروط مدروسة ومطبّقة بدقة وموضوعية وشفافية. هذا عن فنلندا وغيرها، أما في مدارسنا، فالصحف تحدثت، بالأمس، عن واقعة تعدّى فيها مدرس على أحد تلاميذه بالضرب وصارعه حتى سالت الدماء من وجهه، في حين كشفت دراسة حديثة عن أن عائق الجهل بتشغيل الحاسب الآلي يقف سداً أمام تنفيذ مشروع حديث لتدريس اللغة العربية باستخدام الكمبيوتر.
فبين اللجوء إلى العنف، وغياب التأهيل العلمي، يبدو أن حال الكثير من معلّمي مدارسنا مدعاة للرثاء، ومن هنا تبدو أهمية توجيه الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، بضرورة الاهتمام بمعايير الكفاءة الأكاديمية للخريجين والخريجات الراغبين في الالتحاق بسلك التدريس، بحيث لا يلتحق بالعمل سوى الخريج المؤهل الذي يؤمن بأن التدريس رسالة سامية ومهنة محترمة، تقدم خدمة جليلة للمجتمع وتسهم في تعزيز نهضته.
ولو أننا أجرينا دراسة مسحية بسيطة للتعرف إلى مقدمات الانخراط في مهنة التدريس لدى القائمين على العمل حاليا، لا سيما في المدارس الخاصة، لتوافرت لنا مؤشرات حقيقية حول مدى قبول الكثيرين لهذه المهنة السامية، ولأدركنا أن حسابات "العرض والطلب"، وكذلك منطق "الأمر الواقع" قد حكم الكثير من الحالات، مع كل التقدير والاحترام للكثيرين أيضا ممّن أسهموا -وما زالوا- في أداء دورهم بتفانٍ وإخلاص.
ومن نافلة القول إن رسالة المعلم ودوره التربوي يتجاوزان قاعات التدريس بمراحل، وهناك كمّ غزير من الأدبيات التي تؤسس لدور المعلم، وتعدد الرهانات التنموية القائمة على هذا الدور، ولذا فإن من الضروري أن تؤطر المهنة وتوضع معايير محددة واضحة لا لبس فيها، لاختيار المعلم الكفء، كي نتفادى مستقبلا وجود "معلّم مصارع"، أو معلّم لا يجيد التعامل مع أدوات العصر وتقنياته، أو التواصل مع تلاميذه وإيجاد قواسم ولغة مشتركة تفتح له القلوب والعقول وتسهم جدياً في توصيل الرسالة التربوية- التعليمية إلى النشء، ومن الصعب أن نرهن مستقبلنا بيد الهواة والمجرّبين وأنصاف المتعلمين. وإذا كنّا نطالب بتوفير كل الدعم والمساندة للمعلم، والعمل على تعزيز مكانته واستعادة دوره ضمن منظومة العملية التعليمية، فإن هذه المساندة لا ينبغي أن توفَّر إلا لمن يستحق ويقدر على تحمّل مسؤولية الأمانة وقدر المكانة، ولمَن يمتلك رغبة جديّة لا لمَن يبحث فقط عن راتب مجزٍ ووظيفة شاغرة، ولمَن يؤمن بالرسالة ويمتلك ثقافة وتأهيلا علميا وقناعة ذاتية بقيمة ما يؤديه لا لمن ينظر للمهنة نظرة دونية، بحيث نضمن من خلال ذلك كله إعداد جيل تنافسي مؤهل لمواجهة تحديات عصر العلم ومجتمع المعرفة، وقابض على هويته وجذوره، ومتمسك بالانتماء إلى هذه الأرض الطيبة.
ـــــــــ
عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية