من بين اليافطات الكثيرة المرفوعة هذه الأيام ضمن أجندة الإصلاح العربية المنشودة مسألة تمكين المرأة وإدماجها في الحياة العامة، باعتبارها أولاً مواطناً له كامل الحقوق في أن يصبح فاعلاً في المجال العام كغيره، وباعتبارها أيضاً نصف المجتمع الذي لابد من الاستفادة من قدراته وطاقاته الخلاقة في سياق التعبئة التي يفترض أن تكون شاملة لرهانات التنمية والتحديث على مختلف الأصعدة. والقوى الداعية إلى تمكين المرأة على الساحة العربية، تتفاوت في حدة مطالباتها، وأيضاً في المدى الذي تريد لهذه المطالب أن تذهب إليه. فهنالك من يريد للتمكين أن يكون مظهراً متوازناً من مظاهر التنمية المنشودة، وهنالك أيضاً من لا يريد سوى مشاكسة العادات والتقاليد والتراث، والتخفف من أعباء الإرث الثقافي، بإيجابياته وسلبياته. وتوجد بين الفريقين بكل تأكيد أطراف ثالثة، هي مما يمكن توقع ظهوره، عندما تتحول قضية ما إلى تيار عام، وتصبح موضوع استقطاب وأخذ وعطاء سياسي.
أما الأسئلة المثارة اليوم في سجال قضية تمكين المرأة العربية فكثيرة، ولعل من أبرزها: هل حقاً أن المرأة العربية فاقد اجتماعي اقتصادي حقيقي مُعطَّل... أم أنها طاقة كامنة جاهزة تنتظر فقط التفعيل؟ هل فات الوقت لـ"تحرير" وتمكين المرأة العربية، أم أن عملية التغيير الاجتماعي كانت تحتاج وقتاً أكثر من عملية التغيير الاقتصادي؟ ما هو واقع الحركة النسوية العربية... هل تمثل المرأة العربية حقاً، أم أنها مجرد استجابة لمقتضيات تقليد موضة حركات "الجندر" الغربية، ولكن بشكل منبتٍّ عن الواقع العربي؟ ما هي المكانة الحقيقية للمرأة كأم وكزوجة وموظفة، في المجتمع العربي... التقليدي مثلاً؟ ثم أين المرأة في المجال العام من أنشطة اقتصادية وثقافية وإعلام؟ ما هي حدود المنجز... ومخاطر التسليع! إلخ.
إن مثل هذه الأسئلة يجيب عليها عادة كل طرف، تقليدي أو حداثي، إسلامي أو علماني، رجل أو امرأة، بحسب ما يراه، وما يتوافق مع قناعاته، ولكن الصحِّي في هذا السجال العام هو إثارة الفكرة في حد ذاتها، لأن طرح هذا النوع من الأسئلة وتداوله في وسائل الإعلام وبين الجمهور العام، أهم بأشواط من اقتراح إجابات جاهزة عليه. المهم، أن التعامل مع المرأة بعقلية القرون القديمة، أو بمفاهيم ثقافة الكبت، لم يعد قاعدة مسلماً بها، ولا أمراً واقعاً، بأي وجه.
ولاشك أن الكرة الآن في مرمى الحركة النسوية العربية، بأن تثبت قدرتها على تأطير هذا السجال، في سياق يخدم مطالب تمكين المرأة، ويعظم من مكتسباتها عملياً. فبعد أن وصلت المرأة العربية إلى مناصب قيادية في عديد من الدول، وبالنظر إلى ارتفاع معدلات تمدرس البنات والفتيات، في مختلف الدول العربية، وفي ضوء التحولات المتسارعة في العالم العربي، بل في العالم أجمع، لم يعد ثمة مبرر من أي نوع لتقاعس الحركة النسوية العربية عن الاضطلاع بدورها التأطيري للعمل النسوي.
إن أخشى ما أخشاه هو أن تنساق بعض حركات المجتمع المدني العربية ذات الارتباط بالشأن النسوي وراء بعض أكثر مطالب حركات "الجندر" الغربية تطرفاً ويسارية إيديولوجية متحللة من أبسط الضوابط والخصوصيات الثقافية، والدينية أيضا. لأن حدوث انجراف كهذا سيتحول بالمطلب النسوي من سياقه المشروع والصحيح، والذي لا جدال فيه، إلى متاهات لها خلفياتها التي قد يتفق معها البعض، ولكن يختلف معها الكثيرون أيضاً. فموضوعات متعلقة بأحكام الأحوال الشخصية مثلاً، لها سياقها الديني الذي لا يمكن أن تخرج عليه في المجتمعات العربية الإسلامية. أما ما عدا ذلك، فلا أحسب أن أحداً يمكن أن يعترض على أي شيء فيه من شأنه تمكين المرأة العربية، ونيلها فرصتها كاملة للنهوض بمجتمعاتنا العربية مع أخيها الرجل، سواء بسواء. وتبقى الخطوة التالية منتظرة من المرأة العربية نفسها أن تقتحم كل المجالات التي من شأنها ترسيخ عملية التمكين، فمن نامَ لم تنتظره الحياة.