على ضفاف النيل، وفي خرطوم السودان انعقدت القمة العربية والتأم جمع "بعض" القادة، وتحملوا مشاق الارتحال ووعثاء السفر، ليؤدوا جميعا طقسا بروتوكوليا يعلمون جميعهم -قبل وصول الخرطوم- ألا جديد في هذه القمة ولا ثمرة لها ولا طائل من ورائها، وقد جهّز كل منهم خفيّ حنين ليعود بهما إلى بلاده، ووقف الكثيرون منهم على أطلال "لاءات الخرطوم" الغابرة، التي أصبحت هباءً منثوراً.
مشكلة الجامعة العربية أنها بلا "هويّة" وبلا "غاية" وبلا "مسؤولية"، اتساقاً مع لاءات الجامعة العربية في الخرطوم قبل عقود، ربما كانت هذه اللاءات قاسية في حق الجامعة، لكنها الحقيقة، فالجامعة العربية أنشئت حين أنشئت لتكوّن هوية "قومية" للعرب، يلتئم فيها شملهم وتتوحد كلمتهم امتداداً لأحلام الثورة العربية الكبرى وخلقاً لأيديولوجيا جديدة قادرة على مواجهة التحديات الكبرى في المنطقة حينها والتي تمثل إسرائيل رأس الحربة فيها، وبما أن الهوية فضاء مفتوح فقد نازع الجامعة العربية على قوميّة الهويّة، خطاب آخر يمنح الهوية طبيعة إسلامية دينية، مبتعدا عن القومية منحازاً للدين فكان المؤتمر الإسلامي وغيره، وقد كان للصراعات السياسية دور في تمزيق الهوية، وباختصار فقد أثبتت الجامعة على طول تاريخها أنها بلا "هويّة".
أما "الغاية" فإن الجامعة تتخبط في تحديد هذه الغاية المرجوّة والمتوخّاة، ففي كل عقد تقريباً يضجُّ العربان بأنهم سيتوحّدون ويبدعون ويثبتون حضوراً قوياً على المشهد العالمي، ولكنهم يزدادون في كل عام تحارباً وافتراقاً وتناحراً وشقاقاً، ولكل منهم غاية هو موليها، لا يجد سبيلا لوصولها إلا بإفساد غايات الآخرين، فتقوم بينهم في كل عقد تقريباً حروب ومعارك هي أشبه بداحس والغبراء لكنها بأدوات أكثر تدميراً وأساليب أقل شرفاً، فالجامعة العربية بلا "غاية".
أما "المسؤولية" تجاه الجامعة، فلا أحد يهتم بهذه الجامعة إلا بقدر ما تقدمه له من خدمات، مرة اقتصادية وأخرى سياسية وثالثة إعلامية وغيرها، والبعض يحاول من خلالها تجميل صورته كزعيم وقائد، ويحاول استغلالها لتثبيت تلك الصورة وإن كان على الأرض في بلده يقع تحت ضغط الشارع بوجوب "توضيب" الحقائب للرحيل، وليست عنا ببعيد قصة الجنرال اللبناني في القمة الخرطومية الأخيرة.
لقد آن للعرب أن يعلموا أن نجاح التكتلات السياسية أو الاقتصادية رهن بقدرتها على تحقيق المصالح الوطنية لكل أجزاء التكتل، وموغل في التيه من يحسب أن "الشعارات البرّاقة" و"القضايا الكبرى" "ذات الاهتمام المشترك"! تجدي نفعاً أو تنتج عملاً أو تخلق إنجازاً.
إن التكتلات الناجحة في العالم تنطلق أول ما تنطلق من قدرتها على خلق إطار يجمع مصالح أجزاء التكتل، ويجعل الانخراط في التكتل مصلحة وطنية قبل أن تكون مصلحة قومية أو شعاراتية، وحين يكون التكتل هو أفضل الخيارات المصلحية لكل أجزائه فإنه مؤذن بنجاح ومعقود له البقاء والتطوّر.
لقد تاهَ العرب طويلا في غابات الشعارات القومية ونظيرتها الإسلاموية، قيل دهراً إن "القومية" هي الحل، فكانت وبالاً، وقيل زمناً إن "الإسلاموية" هي الحل، فكانت إرهاباً وعنفاً، ونسي الجميع مصالح الأوطان وغرقت "الوطنية" في لجة "القومية" أو "الأممية"، وأصبح الجميع أشبه بالغراب الذي أراد تقليد مشية الحمامة فلم يتقنها وأضاع مشيته.
الخطاب القومي وشعاراته ومؤسساته ودوله أصبحوا على هامش الفعل وأصبحوا يجدون أنفسهم أكثر في هوامش التاريخ، فهم يأنسون بالذكرى لذلك المجد الذي كان وهماً أرادوه فكانت عاقبة أمرهم خسراً، وها هو هذا الخطاب يحتضر على مرأى ومسمع أنصاره وخصومه ولا يجد له نصيراً، والأنكى أنه لم يعد يثير شماتة أحد من أعدائه، فقد تلاشى حتى لم يعد قادراً حتى على إثارة العداء وتلك لعمري مصيبة أدهى وأمر.
أما الخطاب الإسلاموي المعاصر الذي عزف دهراً على وتر "الأممية" وأن الأمة أولى من الوطن، وثارت شعاراته الكبرى التي ملئت بها الكتب وسارت بها الركبان شعراً ونثراً، وحين تمخض لم ينتج سوى فكر بائس وتطبيق مشوّه، وحين دخل البعض منه في الأجندة الوطنية وجد نفسه ممزقاً بين شعاراته "الأممية"، ومتطلبات "الوطنية" الملحّة على الأرض، فأصبح كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
ظل القوميون والإسلاميون يمارسون هجاء أيديولوجياً للوطنية ومرتكزاتها الفلسفية والعقدية، ويطعنون في مصداقيتها ومصلحيتها، ويدقون فيها الأسافين تلو الأسافين، ونسوا في غمرة الصراعية أن الوطنية هي المحك وهي الأولوية وهي الركن الركين لأي بناء بعدها.
ألمح القوميون تارات أن الوطنية فيها رائحة الخيانة والتخاذل و"تفريق الصف العربي" والشعب العربي، وأنها مؤامرة استعمارية لتفتيت القومية، وصرّح الإسلامويون تارات أن الوطنية كفر وردة ومذهب شركي وكفري!، وقدموا جميعاً الوطنية وحاجاتها الملحة قرباناً على مذبح الشعارات.
وما كانت الوطنية يوماً خيانة ولا المحلية تهمة، لقد كان العرب الأولون يفاخرون بأوطانهم وأراضيهم ومنازلهم وقراهم، يح