لقد بلغت المظاهرات ومواكب الاحتجاج الفرنسية, التي شارك فيها الطلاب والعمال والباحثون عن العمل, فضلاً عن تيار "اليسار" الذي حذا حذوهم, مدى يمكن وصفه بأنه انتفاضة شعبية تلقائية, ضد ما أشك كثيراً في أنه يروق لغالبية المشاركين في تلك المواكب والاحتجاجات. والهدف الواضح والمعلن للانتفاضة هذه, هو الضغط على الحكومة, وإرغامها على التراجع عن تعديلات تشريعية طفيفة, أجرتها على قانون العمل الساري الآن, إلا أنها مضت شوطاً أبعد من ذلك بكثير, هو أقرب إلى المطالب الراديكالية. أقصد بهذا أن المحتجين قد صبوا جام غضبهم, على نمط معين من أنماط الاقتصاد الرأسمالي, يعتقد كثير من الفرنسيين إن لم تكن غالبيتهم, أنه يشكل خطراً على مقاييس العدالة بل وقيم المساواة, التي يعلي من شأنها الفرنسيون بصفة خاصة, لكونها قيماً رئيسية ومحورية في منظومة شعارات ثورتهم الجمهورية الثلاثة "الحرية والإخاء والمساواة".
ولم يكن رئيس الوزراء الفرنسي "دومينيك دو فليبان" مدركاً لمدى مخاطر عواقب ما بدا له لحظة إطلاقه إياه, مجرد تعديل طفيف وبنّاء على تشريعات العمل السارية. وكان الذي رمى إليه رئيس الوزراء بتلك التعديلات, التخفيف من القيود والعقبات الهيكلية الإدارية المعيقة لإنشاء الوظائف الجديدة. لكنه ودون أن يدري أو يقصد, كان قد أثار بذاك الإجراء, سؤالاً جوهرياً حول المستقبل القومي للفرنسيين, وهو سؤال كثير الشبه بتلك الأسئلة التي أثارها الاستفتاء على مسودة الدستور الأوروبي قبل عامين. وتدور تلك الأسئلة كما نعلم حول طبيعة مستقبل الاتحاد الأوروبي, والنمط الرأسمالي الذي يراد له أن يسود المستقبل الأوروبي.
بقي أن نقول إن الفرنسيين ليسوا وحدهم المنشغلين بهذا الهاجس والقلق. فقد انشغلت ألمانيا بحوار مماثل حول أنماط الرأسمالية, مع العلم أنها تعاني اضطرابات مقلقة في سوق عملها. بل انتقل الحوار حول أنماط الرأسمالية إلى مفوضية الاتحاد الأوروبي نفسها, على إثر توسعة الاتحاد ورفع عضويته من 15 إلى 25 دولة. ومنذئذ فقد تراجعت المفوضية عن النمط "الاجتماعي" التقليدي الذي كانت تتبناه سابقاً. يضاف إلى ذلك الإضراب العمالي الذي شهدته بريطانيا يوم الثلاثاء الماضي, وهو الأكبر من نوعه منذ عقد العشرينيات, آخذين في الاعتبار أن القضية الرئيسية المطروحة فيه هي حقوق التقاعد.
وبالطبع فقد ظل الفرنسيون على معارضتهم الثابتة لنمط "الرأسمالية الوحشية" منذ أن لاح في الأفق البريطاني شبح ذلك الغول الرأسمالي الطاحن, في سماء ثورتها الصناعية في القرن التاسع عشر. يذكر أن ذلك الغول قد عبر الحدود البينية الأطلسية, لينشئ له عريناً آخر في عدد من الدول خارج إنجلترا. وهذه فرصة مناسبة لنورد فيها أن آخر استطلاع للرأي العام العالمي عن نظام السوق الحر والرأسمالية الحرة, أشار إلى أن نسبة 74 في المئة من الصينيين تعتقد أنه أفضل نظام اقتصادي على الإطلاق, في مقابل نسبة لا تزيد على 36 في المئة فحسب, من الفرنسيين الذين يشاطرون الصينيين الرأي ذاته. إلى ذلك نضيف أن نسبة الألمان ليست بأحسن حال من الفرنسيين, في تأييدها لهذا النمط الرأسمالي.
والسؤال الرئيسي الذي نثيره هنا: عن أي نمط من أنماط الرأسمالية نتحدث نحن؟ فمنذ عقد سبعينيات القرن الماضي وإلى اليوم, طرأ تغيران رئيسيان على النمط الرأسمالي الأميركي, الذي يقود العالم الآن. فقد جرى هناك تعديل على نمط أمين الرهن أو الصفقة الجديدة القبلية, وهو نمط رأسمالي أميركي ساد الغرب إبان السنوات المبكرة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية, وقد جرى تعديله بنمط جديد يقوم على المسؤولية وخدمة أهداف الشركات. وكان النمط الأول سابق الذكر يطالب الشركات بتحمل مسؤوليتها إزاء ضمان خير وسعادة ورفاه موظفيها. والمعلوم أن ذلك إنما كان يمثل شكلاً من أشكال الالتزام الاجتماعي, يتم الوفاء بالجانب الأكبر منه, عبر سداد الضرائب المفروضة على الشركات.
ولكن الذي حدث هو إبدال ذلك النظام بنظام أصبح فيه مدراء الشركات ملزمين بتحقيق قيم ربحية قصيرة الأمد للمالكين, تحكمه العائدات الربحية ربع السنوية ومعايرة أسهم المالكين. وكان الناتج العملي عن هذا التغيير, تزايد الضغوط على المدراء في وجهة خفض أجور العاملين ومزاياهم الوظيفية. وهي إجراءات أدت في بعض الأحيان إلى سرقة الحقوق المعاشية وغيرها من الجرائم الوظيفية والمهنية الأخرى. كما تلازمت الضغوط ذاتها مع تصعيد حملات سياسية, بغية إرغام الحكومات أو إقناعها بخفض الضرائب المفروضة على الشركات, مع العلم أن تلك الضرائب توظف في تمويل الخزانة العامة والإنفاق على مرافق الصالح الاجتماعي العام. وبإيجاز فقد طرأ تغير جوهري منذ عقد الستينيات, على النظام السائد سابقاً, بحيث يتمكن من سرقة الثروات من أفواه وجيوب العاملين الفقراء ومن خزانة الدولة, كي يصب في رصيد حملة الأسهم وخزانات الشركات.
هذا وقد أطلقت من ناحيتي تسمية "رأسمالية مدراء الشركات" على هذا النمط الرأسمالي الجديد. والتقط مني هذا الخيط