هناك أكثر من وجه وتفسير لحالة الاحتقان السياسي الراهنة في تايلاند والآخذة في التفاقم مع اقتراب موعد الانتخابات العامة المبكرة التي حدد لها رئيس الحكومة "تاكسين شيناواترا" تاريخ الثاني من أبريل.
فهي ابتداء انعكاس للجدل الدائر منذ سنوات حول ظاهرة وصول رجال الأعمال الناجحين إلى سدة الحكم في بلدانهم عبر صناديق الاقتراع، والتي جسدها آسيوياً "شيناواترا"، فيما جسدها شرق أوسطياً رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، وأوروبيا رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني. فعلى حين يرى البعض في هذه الظاهرة رداً طبيعيا على فشل الساسة التقليديين في إدارة بلدانهم بطريقة تتناغم مع إيقاع العصر السريع وتستجيب لمتطلبات التنمية المتسارعة، يرى آخرون فيها خطراً محتملاً على الدستور والقانون وحقوق الإنسان وقواعد العدالة والشفافية، وذلك من منطلق أن رجال الأعمال يملكون من النفوذ المالي ما يستطيعون به شراء الولاءات والذمم والأصوات الانتخابية ولي ذراع القانون في اتجاه ما يخدم مصالحهم ويزيدهم نفوذاً فوق نفوذ.
و"شيناواترا" الذي كان ضابط شرطة لامعا قبل أن يستقيل ويستثمر جهوده وعلاقاته وألمعيته في تكوين إمبراطورية أعمال ناجحة في قطاع الاتصالات، حاول بعد نجاحه الاقتصادي المشهود أن يجرب حظه في عالم السياسة، فدخلها من خلال تأسيس حزب سياسي باسم "تاي راك تاي" (أو حزب التايلانديين يحبون التايلانديين)، وهو الحزب الذي خاض به الانتخابات العامة لعام 2001 ونجح عبره في الوصول إلى السلطة لأول مرة. ومنذ هذا الحدث الذي شكل انعطافاً في التاريخ السياسي التايلاندي لم تتوقف الشائعات عن استخدام الرجل لقبضته المالية في تغيير الكثير من معالم السلطة والنفوذ في البلاد. كما راجت حكايات كثيرة تتهمه بالفساد وشراء الذمم وخرق القوانين، ولا سيما تلك المتعلقة بالصفقات والعقود الحكومية وترقية المحازبين والأنصار، شارك فيها الساسة التقليديون المتضررون من صعوده ومعهم بعض منافسيه من رجال الأعمال وطائفة من الإعلاميين ونشطاء حقوق الإنسان.
وهي ثانياً انعكاس للصراع الدائر بين فكر يؤيد الخصخصة باعتبارها حالة تفرضها ظاهرة العولمة وتستدعيها حاجات التطوير والتنمية وجذب الاستثمارات وتنشيط الاقتصاد الوطني، وآخر يقاومها من منطلقات العدالة الاجتماعية والمحافظة على الثروة الوطنية ومنع وقوعها تحت هيمنة أصحاب رؤوس الأموال الأجانب. فخصخصة المؤسسات المملوكة كلياً أو جزئياً للدولة كانت ضمن أولويات سياسات "شيناواترا" بعد وصوله إلى الحكم، وسعى إليها جاهداً من منطلق ضرورتها لتحديث مرافق البلاد وإحداث حراك اقتصادي ونفخ الحياة في سوق الاستثمارات والبورصة. وهو لئن تمهل لاحقاً في خططه فانه لم يهجرها كلياً، بدليل إصراره مؤخراً على بيع 25 بالمائة من أسهم شركة توليد الكهرباء الحكومية التي تبلغ قيمة أصولها الإجمالية 890 مليون دولار، وهو ما بات مجمداً الآن بعد أن أصدرت المحكمة الإدارية التايلاندية العليا حكماً ضد عملية البيع هذه. وهذا بطبيعة الحال يثبت أن القضاء التايلاندي لا يزال يتمتع بهامش من الاستقلالية عن السلطة التنفيذية، ويفتح الباب أمام صدور أحكام مشابهة أخرى، لكنه من جهة أخرى يمثل تحدياً لحكم "شيناواترا" وسياساته في وقت عصيب. وكانت المحكمة الدستورية قد رفضت طلباً تقدمت به مجموعة من النواب في فبراير المنصرم لاستجواب ومساءلة الرجل حول قرارعائلته ببيع شركة "شين" للاتصالات المملوكة لها إلى شركة سنغافورية حكومية قابضة بمبلغ 1.9 مليار دولار. هذا القرار الذي عده هؤلاء النواب ومعهم النقابات العمالية تصرفاً غير مسؤول في أصول الوطن الثمينة والحيوية ودعوة لهيمنة الأجنبي عليها، بل وتسبب في إطلاق الشرارة الأولى للازمة الراهنة، خاصة في ظل تقارير مفادها أن أصول هذه الشركة تضاعفت 3 مرات منذ وصول "شيناواترا" إلى السلطة.
وهي ثالثاً انعكاس للصراع ما بين النخب المدنية المتعلمة التي تهيمن على وظائف القطاعين العام والخاص ومجمل العمل السياسي والنشاط الاقتصادي، وسكان الأرياف الساعين إلى وضع اقتصادي أفضل وبالتالي دور أكبر لجهة التأثير في السياسات العامة. وتتضح الصورة بشكل أفضل حينما نعلم أن نسبة كبيرة من القاعدة الشعبية للحزب الحاكم والمقدرة بثمانية عشر مليون عضو توجد في الأرياف، حيث أغدق "شيناواترا" الأموال والمساعدات من أجل تحسين أحوال سكانها ودمجهم في عالم الأعمال، من منطلق أن حل معضلة الهوة الثقافية والاقتصادية ما بين تايلانديي المدن وتايلانديي الأرياف هو في أن نمدن الريف– من خلال جعل سكانه أكثر غنى وأفضل تعليماً وثقافة- بدلاً من تتريف المدينة.
وأخيراً، فإن الأزمة السياسية الراهنة ليست سوى صدى لفشل الأحزاب والمنظمات السياسية المعارضة في الاحتكام إلى الخيارات الديمقراطية والدستورية لإزاحة خصمها. فهي بدلاً من أن تجعل صناديق الاقتراع وصوت الأغلبية الشعبية حكماً بينها وبين "شيناواترا" فيمن يمسك بالسلطة مثلما دعا الأخير، لجأت،