عندما قطع التلفزيون الحكومي الصربي إرساله العادي لكي يبث تقريراً إخبارياً حياً عن وصول جثمان الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش إلى بلغراد يوم الأربعاء قبل الماضي, انهالت على المحطة التلفزيونية مئات المكالمات الهاتفية الساخطة من قبل المتفرجين, مطالبة إياها بالكف عن إعطاء ذلك الاهتمام غير المبرر لمصير الرئيس اليوغوسلافي الراحل. لكن، في المقابل، سرعان ما انهالت مئات المكالمات الهاتفية من قبل أنصار ومؤيدي ميلوسوفيتش, مطالبة باستمرار القناة في البث على مدار 24 ساعة, وذلك لمتابعة وتغطية تفاصيل دفن جثمان الرئيس الراحل. تعليقاً على هذا التضارب في آراء الجمهور والمتفرجين, قال نيناد ستيفانوفيتش، مدير المحطة التلفزيونية المذكورة, إن ميلوسوفيتش لا يزال قادراً حتى بعد وفاته, على شطر الصرب إلى معسكرين من الخصوم والأعداء.
ورغم الخسائر البشرية الكبيرة التي أسفرت عنها حروب التسعينيات من القرن الماضي, وما انتهت إليه من إطاحة مدوية بالرئيس ميلوسوفيتش, فإن النزعة القومية الصربية لا تزال حية ومتقدة, وقادرة على تقسيم البلاد وشطرها بين ماضيها ومستقبلها. فمن جانبهم أمسك أنصار ومؤيدو ميلوسوفيتش بمناسبة موته, على أمل كسب أصوات الناخبين لصالحهم, وتعويض الخسائر السياسية التي لحقت بهم منذ خمس سنوات من الآن. وفي الجانب الآخر, فلا يزال الخطر يحيط بخطة دمج صربيا في الاتحاد الأوروبي, وفقاً لما رأى فيه الإصلاحيون عاملاً أساسياً من عوامل استقرار الأوضاع في منطقة البلقان. هذا وكان موكب وداع ميلوسوفيتش الذي جرى تنظيمه أمام مبنى البرلمان الصربي يوم السبت الماضي, وحضره نحو 80 ألف شخص، قد رفع أسهم القوميين عالياً, مع العلم بأنهم يحظون سلفاً بتأييد نصف القاعدة الانتخابية, وفقاً لآخر استطلاعات الرأي العام التي جرت هناك.
وعقب ذلك الموكب بساعتين فحسب, تمكنت القوى الديمقراطية من حشد موكب معارض, لم يشارك فيه إلا بضع مئات من الشباب في ساحة قريبة من البرلمان, أملوا من خلاله توصيل رسالتهم القائلة إن رحيل ميلوسوفيتش يعد مؤشراً على نهاية مرحلة, يخشون من أن تكون مناسبة موته, بداية ميلاد جديد لها. ومن المشاركين في هذا الموكب الديمقراطي المعارض, برانكا بربا, أرملة أحد الصحفيين الذين اغتالتهم قوات ميلوسوفيتش عام 1999. وأبدت برانكا استياءها ومخاوفها من سماح السلطات لمؤيدي ميلوسوفيتش بالتجمهر والتجمع أمام مبنى البرلمان. والسبب هو أن الساحة المذكورة نفسها, هي التي شهدت المظاهرات التي أدت إلى إسقاطه عام 2001. والخوف كما تقول, هو من أن يكون مؤيدو ميلوسوفيتش قد تعمدوا اختيار المكان ذاته لإرسال رسالة لكافة المواطنين الصرب, مغزاها عودة ميلوسوفيتش من عالم الموتى, وأنه سيهيمن مجدداً على الحياة السياسية الصربية, بعد أن ينهض من قبره، على حد قولها.
ومما يضاعف المصاعب التي تواجهها الحكومة الإصلاحية الحالية بقيادة بوريس تاديتش, احتمال بروز ثلاث أزمات خلال الأشهر القليلة المقبلة, من شأنها إلهاب النعرة القومية الصربية مجدداً. فما هما إلا أسبوعان فحسب, ويتعين على الحكومة بعدهما تسليم الجنرال راتكو ملاديتش إلى محكمة جرائم الحرب في لاهاي, حيث وجهت إليه الاتهامات بالتورط في مذابح سربرينيتشا. وفي حال عجزت الحكومة الصربية عن الوفاء بهذا الواجب في موعده المحدد, فعليها أن تواجه قرار الاتحاد الأوروبي, القاضي بإلغاء مفاوضات إعطاء صربيا ميزة شراكة أوثق مع الاتحاد الأوروبي. أما ثانية الأزمات فتتلخص في أن شهر مايو المقبل سيشهد إجراء استفتاء عام في إقليم مونتينيغرو, يقرر فيه الناخبون انفصال إقليمهم عن صربيا, والإعلان عن دولة مستقلة خاصة بهم. أما ثالثة الأزمات وأشدها إيلاماً، فتتعلق بالمحادثات الجارية حالياً, برعاية الأمم المتحدة حول مستقبل ومصير إقليم كوسوفا, والتي يرجح أن تؤدي إلى انفصاله عن صربيا, مع العلم بأنه الإقليم الذي طالما اعتبره الصرب أرضهم التاريخية الأم, على الرغم من تفوق الأغلبية القومية الألبانية عليهم من حيث التعداد السكاني حالياً.
وكما قال زاركو كوراتش نائب رئيس الوزراء الصربي السابق, فإن البلاد مقبلة على الولوج إلى منطقة رمادية اللون, فيما يبدو. أما "جيمس لايون"، المحلل السياسي لدى "مجموعة الأزمات الدولية"، فمن رأيه أنه وفيما لو لم تحرك الحكومة ساكناً في مواجهة خطر مباشر يهدد بسقوطها في الوقت الحالي، فإن السبب وراء بقائها حتى الآن, هو أنه لا أحد آخر يرغب أصلاً في تولي دفة الحكم ومواجهة الأزمات الثلاث التي تلوح في الأفق الصربي, على نحو ما بينا في موضع سابق هنا.
ويمضي السيد "لايون" إلى القول إن في عدم قدرة ممثلي الحكومة في البرلمان على الاعتراض ضد مشروع قرار تقدم به "الحزب الوطني" الراديكالي المتطرف, يدعو إلى إدانة محكمة العدل الدولية في لاهاي, إنما يعكس مدى قوة شوكة المعارضة. والجدير بالذكر أن عامة المواطنين الصرب, بمن فيهم أقلهم تطرفاً وأكثرهم اعتدالاً, بدأوا ينظرون الآن إلى