على كثرة وتعدد الكتب التي نشرت عن الغزو والاحتلال الأميركي للعراق, إلا أن غالبيتها افتقر إلى المعرفة الداخلية الدقيقة بخفايا وخبايا ذلك الغزو, والتحولات التي مرت بها السياسات الأميركية منذ سقوط نظام صدام حسين في أبريل 2003 وإلى اليوم. وإن كان هذا الكتاب يعد حالياً من أهم المراجع والمؤلفات التي يستند عليها التياران، المؤيد والمعارض للحرب، داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها, فما ذلك إلا لكونه مؤلفاً توثيقياً في الأساس, مما أكسبه مصداقيته في تناول الاستراتيجيات والتكتيكات والأشخاص الذين هندسوا ونفذوا مهمة الغزو, إلى جانب توثيقه للمعارك وللوجه الدبلوماسي من الغزو والاحتلال, ولمواقف مختلف الأطراف من الحرب ككل.
وقد جاء هذا الكتاب "كوبرا 2: خفايا غزو واحتلال العراق" ثمرة لجهود تحقيقات صحفية اضطلع بها كل من مؤلفيه مايكل غوردون كبير المراسلين الحربيين لصحيفة "نيويورك تايمز" والحائز على جائزة "جورج بولك" عن التحقيق الصحفي لعام 1989, فضلاً عن كونه المراسل الصحفي الوحيد الملحق بقيادة قوات التحالف الدولي البرية. أما زميله الجنرال برنارد إي. ترينو, فقد كان مراسلاً حربياً سابقاً هو الآخر لصحيفة "نيويورك تايمز", وهو يعمل حالياً محللاً عسكرياً لشبكة "إن. بي. سي". وبقدر ما أحسن الكتاب تغطية الخطط العسكرية السابقة للحرب, فهو قد فعل الشيء نفسه في تقييمه للغزو وما بعده, والنظر إلى كل ما جرى على أرض المعركة وما بعدها, بعين التحليل والنقد والفحص الموضوعي المجرد.
بصفته التوثيقية هذه, فقد حافظ مؤلفاه على مسافة ثابتة فصلت بينهما والأحداث والحقائق التي تناولاها, مما أكسب الكتاب موضوعيته, وجعل منه مستودعاً وعرضاً ثراً للحقائق, بينما تركت مهمة الحكم عليها للقارئ نفسه. وفي جانب رئيسي من محتواه, اعتمد الكتاب على الوثائق الداخلية العسكرية التي توافر عليها المؤلفان في كل من العراق والولايات المتحدة الأميركية, بغية الكشف عن عملية اتخاذ القرار ورسم السياسات ووضع الاستراتيجيات الحربية داخل المؤسسة العسكرية. ليس ذلك فحسب, بل استقى أحدهما –وهو مايكل غوردون- قدراً كبيراً ومهماً من المعلومات التوثيقية هذه من داخل العراق, حيث مكث لمدة ستة أشهر كاملة, أثناء عمله صحفياً ملحقاً بالقوات الأميركية هناك.
ولمايكل غوردون علاقات مباشرة مع كبار القادة العسكريين الذين خططوا للحرب ونفذوها. وكان بينهم كل من تومي فرانكس ودونالد رامسفيلد وغيرهما من القادة العسكريين في غرفة العمليات الحربية. أما تحقيقاته الصحفية فشملت عدداً واسعاً من هؤلاء, بمن فيهم الجنرال تومي فرانكس نفسه, وإلى جانبه كوندوليزا رايس, ستيف هادلي, بول وولفوفيتز, مارك جروسمان, جيري بريمر, الجنرال مايرز, إضافة إلى كافة القادة العسكريين المسؤولين عن رسم استراتيجية الحرب وتنفيذها. يجدر بالذكر أن الكتاب يقدم رصداً دقيقاً وموثوقاً به, لمجمل الأخطاء التي ارتكبتها وزارة الدفاع الأميركية, في التخطيط لغزو واحتلال العراق. وانهالت سياط نقد المؤلفين بالذات على ظهر كل من رامسفيلد وتومي فرانكس, اللذين حملهما الكتاب الوزر الأعظم مما ارتكب من أخطاء صاحبت شن الغزو وما بعده. والسبب وراء هذا النقد, أنهما كانا الأشد إصراراً بين كافة صقور واشنطن, على ما أسمياه باستراتيجية الحرب التكنولوجية. وتقوم هذه الفكرة على افتراض أنه في الإمكان إحراز نصر عاجل ونجاح بعيد الأمد في العراق, دونما حاجة لنشر عدد كبير من القوات على الأرض, اعتماداً على التفوق الحربي التكنولوجي وحده. وعلى رغم المعارضة القوية التي ووجهت بها هذه الاستراتيجية, إلا أنها مرت واستطاعت أن تفرض نفسها كواقع وحقيقة في مسار الغزو. ولكن ما النتيجة كما يقول منتقدو ومعارضو الحرب؟ وإلى ماذا يمكن رد شوكة المقاومة القوية التي تهدد بنشوب حرب أهلية شاملة اليوم في العراق, إن لم يكن لتلك الاستراتيجية العسكرية التي كانت بمثابة وصفة للفشل مع سبق الإصرار؟
إن هذا النقد بالذات, هو الذي أعطى الكتاب رواجه واهتمام مختلف مراكز الدراسات الاستراتيجية ودوائر صنع السياسات والقرار الأميركية به, فضلاً عن الاهتمام الذي حظي به في أوساط منتقدي الحرب ومعارضيها. ومما وثق له الكتاب في هذا الجانب تحديداً, مراسلات ومكاتبات ومحادثات القيادة العسكرية المسؤولة عن المعارك فوق الأرض, مع دوائر اتخاذ القرار في البنتاجون, بشأن زيادة عدد القوات الموجودة في العراق, دون أن تجد تلك المناشدات والمطالبات أذناً صاغية لها في واشنطن!
لكن ومن منطلق الموضوعية نفسها, لم يتردد المؤلفان في تصحيح بعض ما شاع في مادة النقد الموجه لإدارة بوش, مثل القول إنها كانت تود لو تنفذ ضربتها وهجومها على العراق, قبل التفكير في غزو أفغانستان, إثر هجمات الحادي عشر مباشرة. والصحيح كما يقول المؤلفان أن عين الإدارة كانت على تنظيم "القاعدة" وليس صدام, رغم ما رأته فيه من خطر يهدد أمنها القومي, منذ ذلك الوقت. وقد قالا إن التخطيط الفعلي لغزو العرا