عندما طُبع كتاب "نهاية التاريخ" كانت آراء مؤلفه فرانسيس فوكوياما متناسبة مع أجواء ومشاعر الانتصار الذي كانت تعيشه أميركا عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة. ولكن فوكوياما عندما يقوم بنشر كتابه الجديد المعنون: "فيما بعد المحافظين الجدد: أميركا في مفترق الطرق"، يجد أجواء ومشاعر مختلفة تمام الاختلاف عن تلك التي كانت سائدة في مطلع التسعينيات. إنه يجد مشاعر الانزعاج والقلق تسود وسط أفراد الشعب الأميركي ونخبه الثقافية، الذين لم يعودوا يعرفون إلى أين على وجه التحديد يمكن أن تقودهم سياسات إدارة بوش الطائشة. ليس هذا فحسب بل سيجد أيضا أن النقاد في أميركا اليوم يصبون جام غضبهم على فريق المحافظين الجدد الذي يعتبرونه السبب الرئيسي في المأزق الذي تواجهه الإدارة في العراق، وإن كانوا لا يترددون أيضا في القيام بتوجيه انتقادات مريرة للعديد من الشخصيات العامة وكبار المثقفين في الولايات المتحدة الذين أيدوا تلك الحرب منذ البداية أو حرضوا عليها. يعترف فوكوياما في كتابه الجديد بصحة ما يذهب إليه هؤلاء النقاد، ولا يجد مفرا من التسليم بأن المحافظين الجدد يتحملون جانبا كبيرا من المسؤولية عما حدث، وأن التهم الموجهة لهم هي تهم عادلة، وأن الحرب في العراق لو استمرت في المضي في نفس الطريق الذي تمضي فيه حاليا، فإن الأمر المؤكد هو أن نظريات المحافظين الجدد -وهم أيضا- سوف تسقط ليس فقط من نظر التاريخ وإنما أيضا من نظر شعب أميركا ومثقفيه بما في ذلك القطاعات التي تبنت فكرهم أو تعاطفت معه في مرحلة من المراحل.
وينبغي علينا هنا، من باب الإنصاف، أن نقول إن فوكوياما وإن كان من أوائل الداعين لحرب العراق -حيث دعا لذلك قبل وقت طويل من وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر- إلا أنه كان أيضا من أوائل الذين قفزوا من مركبة الإدارة، عندما توضحت له الطريقة الكارثية التي تخوض بها تلك الإدارة الحرب في العراق، والشكوك التي تكتنف مستقبل مشروعها هناك. ولم يكن أمام فوكوياما بعد أن أدرك ذلك سوى أن يخفض صوته، ويتوقف عن تأييد بوش علنا، بل ويذهب قبل انتخابات 2004 الرئاسية إلى حد القول إنه لن يعطيه صوته بسبب "سجله الكارثي" في الحكم.
وفوكوياما بمواقفه الجديدة المعلنة التي ضمنها كتابه الجديد، يطمح في العودة مجددا إلى دائرة الضوء من خلال لعب دور في صياغة إجماع عام بصدد السياسة الخارجية للولايات المتحدة في السنوات المتبقية من رئاسة بوش.
ويؤكد فوكوياما في كتابه أنه وإن كان قد انفصل بشكل رسمي عن مجموعة المحافظين الجدد الحالية، إلا أنه لم ينفصل تماما عن تقاليدهم. وهو يقول في هذا الصدد: "لقد توصلت إلى استنتاج مؤداه أن المحافظة الجديدة سواء كرمز سياسي أو كمنظومة فكرية، قد تطورت إلى شيء لا أستطيع أن أؤيده، وقد رأيت أنه من الأفضل لي أن أقوم بصياغة موقف محدد وواضح وجديد، بشأن السياسة الخارجية الأميركية".
ويمكن للقارئ أن يحكم بنفسه فيما إذا ما كانت هذه الدعاوى صادقة أم لا من خلال التمعن الدقيق في الإجابات التي يقدمها فوكوياما نفسه في الكتاب عن سؤالين محددين: هل قام بالانفصال عن المحافظين الجدد بسبب اقتناعه بضرورة ذلك أم بسبب سوء السمعة التي لحقت باسمهم؟ السؤال الثاني فهو: هل قام حقا بصياغة موقف سياسي محدد ومتمايز عن موقف المحافظين الجدد، موقف يقدم شيئا جديدا ومفيدا حقا للسجال السياسي في الولايات المتحدة؟
فيما يتعلق بالسؤال الأول، يمكننا أن نعثر في كتاب فوكوياما الأخير على فقرات يؤكد فيها أنه قد انفصل بالفعل عن المحافظين الجدد، وذلك عندما قام بإعلان تنصله من معظم أفكارهم، وانتقاده للأحلام غير الواقعية التي تبنوها، ونقص المعرفة والأبحاث التي أدت إلى الأخطاء الفادحة في التحليل والتخطيط قبل شن الحرب على العراق، وعندما قدم محاضرات، وكتب مقالات عديدة قام من خلالها بوصف الأسباب التي أدت إلى ضعف الفكر السياسي ليس للمحافظين الجدد فحسب ولكن للمؤسسة السياسية الأميركية بشكل عام.
بالإضافة إلى ما سبق يقدم فوكوياما في كتابه اقتراحا في غاية الأهمية للإدارة الأميركية، وهو أن تقرن جهودها الرامية لنشر الديمقراطية بالتزام واسع النطاق بتنمية الدول الفقيرة، على أن تتوجه جهودها ليس فقط لتقوية الاقتصادات، ولكن أيضا لتقوية مؤسسات تلك الدول التي يناط بها تنفيذ السياسات الاقتصادية، وخصوصا في الدول التي تعاني من ضعف وفساد المؤسسات، لأنه إن لم تقم بذلك فلن يكون هناك أي أمل في تنمية وتطوير تلك الدول، وهو ما سيحول دون نجاح أميركا في مسعاها لنشر الديمقراطية أو تعزيز وجودها في تلك الدول على المدى الطويل. ويطلق فوكوياما على هذا النهج الذي ينصح به الإدارة الأميركية بأنه شيء يشبه "الواقعية الويلسونية".
أما فيما يتعلق بالسؤال الثاني فإن الكثير من النقاد يرون أن ما قدمه فوكوياما في كتابه في معرض الإجابة عنه يعاني من ضعف واضح، كما يفتقر إلى التفصيل الكافي... فكل ما يقدمه في سياق الإجابة عن هذا السؤال مجرد اقتراح عام