لقد أصاب مسؤولو الإدارة خلال الأسابيع القليلة الماضية, عندما قالوا: "إنه ليست ثمة حرب أهلية واسعة النطاق تستعر الآن في العراق". فطالما بقيت القيادة السياسية العراقية متحدة بشكل عام, في محاولتها لتهدئة الوضع الأمني, وطالما بقي العنف والعنف المضاد الطائفي متفرقاً أكثر من كونه عملاً استراتيجياً منظماً –أي أنه لا توجد حملة تطهير عرقي منظم على سبيل المثال- فإن النشوب الفعلي للحرب الأهلية يظل خطراً ومهدداً أمنياً, أكثر من كونه حقيقة وواقعاً. لكن وكما اعترف الرئيس بوش نفسه في حديثه الذي ألقاه بتاريخ الثالث عشر من مارس الجاري عن العراق, فأياً يكن من استهدف المرقدين في سامراء, في الثاني والعشرين من شهر فبراير المنصرم, فلاشك أنه فعل ذلك بقصد إضرام نار الحرب الأهلية. كما تشير أحداث الأمس المروعة, التي تم خلالها الكشف عن 30 جثة مجزوزة الرأس بالقرب من بعقوبة, إلى جانب استمرار المعارك الضارية في أنحاء متفرقة من بغداد, وكذلك إطلاق مدافع الهاون الثقيلة باتجاه مزار الإمام علي في مدينة النجف, تشير هذه الأحداث جميعها, إلى رجوح استمرار هذه المحاولات الرامية إلى إشعال نار الحرب الأهلية وتوسيع نطاقها في أسرع وقت ممكن.
وغني عن القول إن تفادي نشوب حرب أهلية, لهو مهمة سياسية في الأساس. وفي ضوء هذه الحقيقة, فقد أحسن السفير الأميركي في العراق زلماي خليل زاد, صنعاً بمواصلة دفعه العراقيين باتجاه تشكيل حكومة ائتلاف وطني. ومن المتوقع أن يحثهم ويشجعهم أيضاً, على التفكير بالأهداف والسياسات التي يمكن لحكومة كهذه أن تتبناها. من ذلك مثلاً, ربما يعمل السفير الأميركي على إعادة توجيه مسار الحوار العراقي الدائر الآن حول ما إذا كان إبراهيم الجعفري سيواصل توليه لمنصب رئيس الوزراء في الحكومة الجديدة, إلى مساءلته حول سياساته المستقبلية التي يراها. وتدور هذه السياسات المستقبلية بشكل رئيسي حول جملة من القضايا المحورية, منها مثلاً: اقتسام وتوزيع العائدات النفطية بين مختلف المحافظات, إعادة تأهيل الأعضاء غير القياديين في حزب "البعث", بغرض إدماجهم في الحياة السياسية الجديدة في عراق ما بعد صدام, ودمج وتوحيد القوات الأمنية وإيجاد المزيد من الفرص والوظائف.
لكن وفيما لو واصلت العملية السياسية عجزها ومراوحتها, بينما لاح شبح الحرب وبدا أكثر وضوحاً في الأفق, فإنه لا سبيل إلى خطة عسكرية موازية لدرئها والحيلولة دون نشوبها. وضمن هذا الإطار، فإن معظم الحوار الأميركي الدائر اليوم عن العراق, ينصب في السؤال عن كيفية التصدي لاندلاع نزاع شامل, تسوده لغة العنف والعنف المضاد, ويزداد فيه تمزيق العراق أكثر مما هو عليه الآن. بيد أن السؤال الأكثر أهمية وإلحاحاً هو, كيف لنا أن نطفئ نار العنف وهي لم تزل بعد في بداياتها ومراحلها الأولى, قبل أن يتطور ويبلغ سيناريو الحرب الأهلية؟ ثم إن هذا السؤال ليست له علاقة البتة, بكيف ومتى وبأي سرعة ينبغي علينا خفض عدد قواتنا وجنودنا المرابطين هناك, بقدر ما له من علاقة كبيرة بماذا يفعلون أثناء وجودهم الحالي في العراق؟
وفي هذه النقطة بالذات, تشير المؤشرات الأولية إلى خطأ مسار التفكير والتخطيط الأميركي بشأنها. فقد ورد على لسان دونالد رامسفيلد وزير الدفاع, قوله إن قواته الموجودة حالياً في العراق لن تتدخل على مستوى واسع النطاق, فيما لو نشبت الحرب الأهلية, تاركاً بذلك للعراقيين لكي يتدبروا أمرهم. وعلى رغم ما في وجاهة ومنطقية هذا المنحى المحايد الذي بدأت تتخذه قواتنا المرابطة هناك, منذ تصاعد أعمال العنف في أعقاب هجوم الثاني والعشرين من فبراير على المزار الشيعي في سامراء, غير أنه موقف يشبه في وجه من الوجوه, وقوفنا مكتوفي الأيدي, على إثر انهيار نظام صدام حسين في أبريل عام 2003, بينما كانت تجري أعمال النهب والسلب أمام عيوننا مباشرة, دون أن نخطو خطوة واحدة لوقفها ومنعها. وإن كنا قد دفعنا ثمناً باهظاً لتلك السلبية في أعقاب الغزو, فليس مستبعداً أن يعود علينا تكرارها بعواقب وخيمة بالغة التأثير والهدم.
وفيما لو اندلعت الحرب الأهلية بالفعل, فعلى الأرجح أن تسود شريعة الغاب, وأن تعيث المليشيات المسلحة الطائفية عنفاً عشوائياً كيفياً, لا تحركه سوى مشاعر الغضب ورغبة الانتقام العمياء من الآخر. أما ممارسات الذبح والقتل والتطهير العرقي, فستغدو سيدة الموقف بلا منازع. وقتئذ ستشتعل في مختلف الجماعات والانتماءات رغبة الانتقام والتعطش إلى القتل والدماء, وتصفية الحسابات والثأر, ليس من الفظائع المهولة التي ارتكبها نظام صدام حسين فحسب, وإنما الانتقام من فظائع الأمس واليوم ذاتهما. وفي غضون ذلك وأثناءه, ستسعى كل فئة أو جماعة لحماية نفسها وأهلها وعشيرتها, بذبح العشيرة الأخرى المنافسة, درءاً لعدوانها وشرها.
لكن ومنعاً لتحقق هذا السيناريو, فما أوجب إطفاء نار العنف في بداياتها. فلابد من وجود ما يكفي من القوات في نقاط التفتيش, ولابد من فرض إجراءات حظر التجوال, واعتقال أو قتل الحراس الأهليين