قبل أربعة عقود تربعت على عرش قمة الخرطوم "اللاءات الثلاثة"، وكانت الأوضاع في الخرطوم وفي العالم العربي وغيره من العوالم، مختلفة كليا عما واجهته الأسبوع الماضي قمة الخرطوم الأخيرة التي انقلبت على ذاتها.
هذه القمة التي بدت باهتة في نظر البعض، لغياب أبرز القادة العرب وبنسبة قاربت 45% من إجمالي عدد القادة الذي لبى نداء اللقاء السنوي، مع وجود مقترح على طاولة القمة الأخيرة لعقدها بصفة نصف سنوية منتظمة! وإن كان الأجدى في حقيقة الأمر أن تكون كل سنتين، حتى تتضح أحوال العرب عامة ويتمكنوا من التصالح مع القضايا الجوهرية التي تم تكرارها في القمم الثماني عشر السابقة.
ما يراد اليوم من قمة "النعمات"، وبما لا يدع مجالا للشك، هو أن تكون القضية الأولى على بند أعمالها، وهذا ما حدث، هي الإنعام بالتجديد للأمين العام، الشخصية الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الأمناء العامين للجامعة، وكأن الأمة العربية لم تنجب غيره ولا توجد محاولة ولو متواضعة أو على استحياء لتغيير بعض أنظمة وقوانين الجامعة العربية من أجل إرساء جزء من دعائم الديمقراطية بجعل رئاسة الجامعة دورية ومتداولة بين جميع الدول الأعضاء كما هو الحال في مجلس التعاون الخليجي أو الاتحاد الأوروبي.
ونعم مرة أخرى للتبصيم على الديمقراطية الأميركية في العراق، رغم غياب رئيس نظامه الجديد عن المؤتمر، ونعم ثالثة يصعب بلعها وهي للإقرار العربي والاعتراف بحكومة فلسطينية ترأسها "حماس" التي تصنف دوليا كإحدى المنظمات الإرهابية التي يراد من العرب محاربتها لإثبات تعاونهم في مجال مكافحة الإرهاب. فإعطاء الضوء الأخضر لـ"حماس" بعد الهزيمة الانتخابية التي ألحقتها بحركة "فتح"، هو في حد ذاته إشكالية أصعب بكثير من مجرد استخدام واحدة من اللاءات السابقة الذكر.
ونعم أخرى تتعلق بتجديد الاعتراف بأحقية رئاسة إيميل لحود للبنان بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وقد تم تدويل القضية برمتها مع تقديم طعون من أطراف لبنانية بعدم شرعية التمديد له والذي لم يتم إلا بوصفة سورية لم يتم فك لغزها بعد.
وهناك نعم أخيرة لها علاقة مباشرة بالسودان الذي يواجه أزمة تدويل مشكلة إقليم دارفور والتي فتحت كل أبواب احتمالات التصعيد على العالم الخارجي، خاصة بعد أن ترك البت فيها للحكومة كشأن داخلي دون تدخل من القادة العرب، إلا في الجانب المتعلق بالتمويل المالي، فيما إذا بقيت المسألة عربية، مع أنها تحمل في طياتها تبعات لا يمكن تجاهلها مع الأطراف الأخرى، فإن لم يكن بحكم السياسة، فإن للجغرافيا الملاصقة حكم السياسة أحيانا، لذا سميت بالجغرافيا السياسية.
لا نناقش جدول أعمال القمة، فقد تابعه الجميع دون مفاجآت، وإن تغيرت بعض العبارات التكتيكية، ولكن ما نريد قوله هو أن أوضاعنا العربية بوجه عام لم تتغير طوال أربعين عاما، وهو عمر كفيل بالتغيير وفق نظرية العمران البشري، فستبقى القمم اللاحقة عاجزة عن تفعيل القرارات التي تتخذ، وقد حفظناها عن ظهر قلب.
وحتى على مستوى التغطية الإعلامية، فإن الحضور لم يكن مكثفا، كما هو المعتاد في مثل هذه الاجتماعات، وقد يعزى إلى تضييق مسارب اللهو والترفيه وحياة الليل التي لها دور كبير في التشجيع على الحضور أو أحد العوامل المساعدة في نجاح الكثير من الفعاليات المصاحبة لعقد القمم.
فقمة اليوم الواحد والمختصرة هربا من الإطالة المملة في السنوات السابقة، دليل واضح على ما يمكن أن تقوم به (النعمات) من تنسيق للجهود وتوفير للمال والوقت وعودة كل قائد إلى وطنه لمتابعة مشاريع دولته، فذلك أفضل من الضياع في متاهات الأقاويل عن واقع الحال، مع احترامنا للإنجاز الكبير لتبني إنشاء مجلس للسلم والسلام، بعد أن عجزت الجامعة العربية عن إنجاز ما فاتها من مشاريع.