ما شهدته شوارع فرنسا مؤخراً, يبدو في أحد ملامحه ووجوهه في غاية العبث, طالما كان ولا يزال السبب الرئيسي وراء تلك المظاهرات والاحتجاجات, هو الضغط على الحكومة ومطالبتها بالتراجع عن إجراء تشريعي سن مؤخراً, يهدف إلى تحسين فرص العمالة للشباب الفرنسيين من ذوي المؤهلات الضعيفة والمتواضعة. وينصب الهجوم الموجه إلى هذا التشريع, على كونه يعزز في الواقع عدم استقرار حياة هذه الفئة الاجتماعية, التي يزمع القانون تحسين أوضاعها, وفقاً لما يقوله معارضوه. وما هذا الذي يجري الآن سوى مسرحة لأعظم تقاليد الدراما السياسية النفسية التي عرفت بها فرنسا. ومهما يكن فإن الجانب الأكثر إثارة للاهتمام فيها, هو عكسها لمشاعر القلق الاجتماعي الاقتصادي الذي يساور أبناء وبنات الطبقة الوسطى الفرنسية في الوقت الحالي.
وإذ أقول الطبقة المتوسطة, إنما أعني بذلك كون قادة المتظاهرين لم يكونوا من الفقراء. ففيما عدا أولئك المشاركين الذين مثلوا الاتحادات المهنية والنقابية لمختلف مؤسسات ووحدات الخدمة العامة, كان معظم المشاركين في قيادتها, من الناشطين السياسيين وطلاب الجامعات الذين كانوا برفقة آبائهم أو أسرهم بكامل أفرادها في حالات كثيرة, حسبما لاحظ المراقبون. كما لوحظ أن المحتجين كانوا ممن أسهموا في الازدهار الاقتصادي والصعود الاجتماعي الذي اتسمت به فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وإلى وقت قريب, حتى برزت مشكلة البطالة المزمنة, باعتبارها إحدى أهم السمات المميزة للمجتمع الفرنسي اليوم.
كما كان بينهم عدد من ذلك الجيل الذي شارك من قبل في أحداث أو انتفاضة عام 1968 الشهيرة, التي قلبت وجه الحياة الفرنسية كما يقال, ولم تعد الأشياء بعدها كما كانت مطلقاً. وقد شارف معظم هؤلاء على سن التقاعد, بعد أن أصبحوا "بورجوازيين" بمعنى الكلمة –أو "بورجوازيين بوهيميين" وفقاً للتصنيف الاجتماعي الاقتصادي السائد الآن- ومن الطبيعي أن يساورهم القلق على مستقبل أبنائهم وأحفادهم.
وكان متظاهرو ومحتجو عام 1968 قد اعتبروا الوظائف التي توفرت لهم ورغد العيش والرفاهية اللذين نعموا بهما, كما لو كانا أمراً مسلماً به, ثم مضوا للمطالبة بإحداث تغيير سياسي جذري وتثوير الحاسة السياسية, فضلاً عن المطالبة بالتجديد أو التغيير الاجتماعي الطبقي, في وقت كان يسود فيه الركود السياسي والاجتماعي وقتئذ. ولم تكن التظاهرات التي شهدتها فرنسا الأسبوع الماضي, سوى تعبير عن ردة الفعل إزاء القلق والخوف من مخاطر الانحدار إلى أدنى السلم الاجتماعي, ومن مهددات عدم الاستقرار الاقتصادي. وكان طبيعياً أن تتمحور تلك الاحتجاجات والتظاهرات حول مقاومة هذه المهددات والمخاطر.
وما حدث في فرنسا يوم السبت الماضي, كان على نقيض أعمال الشغب وتدمير المحال وحرق السيارات, مما جرى في العام الماضي بقيادة المهاجرين الشباب المقيمين في مساكن الفقر و"الجيتو" الاجتماعي الاقتصادي في الضواحي المحيطة بكبريات المدن الفرنسية. ومهما يكن من وجوه اختلاف بين الحدثين وأشكال التعبير عن أهدافهما, فقد كانت لكل منهما رسالته التي أراد إيصال مغزاها للرأي العام الفرنسي, بل وللعالم بأسره. فالرسالة التي تفهم من أحداث الشغب التي جرت في العام الماضي, كانت تدور حول المطالبة باستيعاب المهاجرين ودمجهم في مختلف مناحي الحياة الفرنسية, وجعلهم جزءاً لا يتجزأ منها في كل شيء. ومع أن تلك الرسالة قد وصلت بكامل معناها, إلا أن الذي يبقى هو تلاؤم الاستجابة العامة لها. فهذه لا تزال مجهولة بعد.
أما الإجراء الذي أدى لالتهاب الشوارع الفرنسية مؤخرا, وما لحقه من تنسيق لحملات ومواكب احتجاج لاحقة خلال الأسبوع الحالي, فتشير الرسالة المتضمنة فيها إلى تصاعد مشاعر القلق العام بين شباب فرنسا, الذين لم تعد بلادهم توفر لهم الوظائف ولا الأمن الاجتماعي الاقتصادي الذي نعم به آباؤهم وأجدادهم. ذلك أنه لا تتوفر ضمانة لأفضلية الوظيفة التجريبية التي تمتد لمدة عامين, وربما تفضي للاستقرار في وظيفة دائمة, على أي وظيفة أخرى مؤقتة وقصيرة الأجل, مما هو متوفر في سوق العمل الفرنسي في الوقت الراهن.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن نسبة 70 في المئة من الوظائف المعلن عنها اليوم, هي ذات طابع مؤقت وقصير الأجل, يعود بعدها الشخص إلى البطالة ومصاطب الانتظار ثانية.
وفي الواقع فإن ظاهرة البطالة في أوساط الفرنسيين الشباب, لا تنعكس كما هي تماماً. ففي فرنسا بالذات وعلى خلاف بقية الدول الأوروبية وغيرها, يظل خريجو الجامعات وحملة شهادة البكالوريوس الحرة, مدة أطول في مرحلة البطالة والبحث عن وظيفة, مقارنة بالدول المذكورة. وبالنتيجة –وعلى حد التقرير الذي نشرته صحيفة "فاينانشيال تايمز" اللندنية في الأسبوع الماضي, فإن الأرقام الرسمية المعلنة عن معدلات البطالة في أوساط الشباب الفرنسيين, لا تعكس الحقيقة كما هي. ووفقاً للتقرير المذكور, قالت الصحيفة إن نسبة 7.8 في المئة من الشباب الفرنسيين تحت سن الخامسة والعشرين, هم خارج سوق العمل تماماً, مقارنة