خلال الأيام الماضية، وأنا في طريقي إلى رحلة خارجية, تناولت من طاولتي لمجرد القراءة وتمضية الوقت, وثائق ثلاثاً مختلفة, أولاها هي استراتيجية الأمن القومي لعام 2006, وثانيتها دراسة حديثة أصدرها "معهد الاستراتيجيات الاقتصادية" تحت عنوان "المخاطر المحدقة بمستقبل التكنولوجيا الأميركية"، وهي تتناول مظاهر تخلف أميركا عن بقية دول العالم في مجال تكنولوجيا الموجة العريضة. أما الثالثة والأخيرة فكان عنوانها "التدريس في خطر" وهي عبارة عن تقرير حديث أعدته "لجنة التدريس" برئاسة "لويس جيرستنر" الرئيس السابق لشركة "آي بي إم" ويتناول ضرورة تحسين أداء وأجور العاملين في مهنة التدريس في مختلف المراحل الدراسية.
وكم كان التباين كبيراً بينها إلى حد الدهشة والذهول! فقد افترضت وثيقة استراتيجية بوش الأمنية, أننا أمة مزدهرة غنية وسنظل كذلك دائماً, عدا عن مشكلة واحدة, هي الطريقة التي نمارس بها نفوذنا وقوتنا. لكن وعلى نقيض ذلك الافتراض تماماً, تتحدث وثيقتا التدريس وتكنولوجيا الاتصالات, عن تآكل بعض الركائز الأساسية لمصادر المنعة والقوة الأميركية, وعن أننا آخذون في فقدان هذه القوة على النطاق الدولي كله, ما لم نتصدَّ لهذا التآكل على نحو مثابر واستراتيجي.
وبسبب كون بلادنا دولة غنية منذ وقت ليس بالقصير, فقد تعزز اليقين بأننا سنبقى أغنياء دوماً, إلى درجة رمي كل من يشك مجرد شك في ذلك, بأنه انهزامي لا أكثر. ولكن كيف لي أن أتهم شخصاً مثل "جريستنر" بالانهزامية؟! فهو الذي استطاع إنقاذ شركة "آي بي إم" من كارثة ماحقة, ليس بشيء آخر سوى اعترافه بنقائصها وعيوبها ونقاط ضعفها, فضلاً عن إجرائه تغييرات جوهرية وأساسية فيها. وأول ما فعله "جريستنر" في هذا الاتجاه هو نسفه لذلك التعالي الوهمي القائل, إن في مقدور تلك الشركة الكبيرة العملاقة, الحفاظ على وزنها وابتكاراتها ونفوذها التكنولوجي, بأي طاقم بشري من ذوي المهارات والمواهب المتوسطة! وكان في مقدمة ما فهمه "جيرستنر" منذ وقت مبكر من توليه قيادة "آي بي إم", أنه ليس في مقدورها الحفاظ على ذلك المركز المتميز في طليعة الابتكارات التكنولوجية الخارقة, إلا إن تمكنت من استقطاب خيرة المهارات والعقول البشرية الخارقة. وإذا صح هذا على شركة "آي بي إم", فما الذي يمنع الاستنتاج ذاته من أن يكون الرسالة الأهم التي يمكن استخلاصها من وثيقة التعليم آنفة الذكر في صدر هذا المقال؟ وإذا ما استعرنا الصياغة ذاتها من حقل التكنولوجيا واستخدمناها في مجال التعليم, فعندها تكون كما يلي: لا سبيل لبلادنا أن تبقى استثنائية, إلا باستقطابها لخيرة المهارات والعقول البشرية الاستثنائية في مجال التدريس. وكما جاء على لسان جيرستنر: فإذا ما بقي التدريس مهنة متواضعة ثانوية –كما هو الآن- فإن الذي يترتب عن ذلك, أن تدفع عجلة اقتصادنا القومي, مهارات متواضعة ثانوية هي الأخرى. ولذلك فإما أن نستيقظ على هذا الواقع اليوم, أو أن نضطر إلى الصحو على طبول وإيقاعات الكارثة, وهي أقرب مما نتصور.
أما "لجنة التدريس" التي أعدت التقرير المشار إليه أعلاه, فلاحظت من جانبها أن "مدارسنا لا تقل جودة ومستوى عن مدرسينا, ولكن تكمن المشكلة في التآكل الذي بدأ ينخر في عظم هذه المهنة من أساسها". فقد أصبح من غير المرجح مطلقاً, التحاق الطلاب المتفوقين والنابغين بمهنة التدريس, إثر تخرجهم من الجامعات والكليات, بينما تراوح رواتب المعلمين مكانها. والنتيجة أن نحو 50 في المئة من الذين يلتحقون بالمهنة, يضطرون لمغادرتها خلال الخمس سنوات الأولى من التحاقهم بها. ولمعالجة هذا التآكل تقترح اللجنة رفع الراتب الأساسي للمعلمين, وإيجاد السبل الكفيلة بمكافأة المهارات التدريسية الجيدة, بجانب رفع معايير الحصول على الدرجة الأكاديمية في التدريس, واختبار المدرسين المرشحين للمهنة, وفقاً للمعايير القومية المطبقة, بغرض التأكد من إلمامهم بالمواد التي سيضطلعون بتدريسها للطلاب.
إلى ذلك دق أجراس الإنذار ذاتها "معهد الاستراتيجيات الاقتصادية", علماً بأنه مؤسسة أبحاث مستقلة غير حزبية. وهنا جاءت الملاحظة أن الولايات المتحدة الأميركية هي من قاد العالم كله إلى تكنولوجيا الموجة العريضة في عام 2000, إلا أنها انحدرت لتحتل المركز السادس عشر في هذا المجال عالمياً اليوم. والملاحظ أن أميركا كانت تنتج نسبة 40 في المئة من المعدات المستخدمة في تكنولوجيا الاتصالات في العام المذكور. أما الآن فقد تراجعت تلك النسبة إلى 21 في المئة فحسب, ولا تزال تواصل تراجعها. أما من حيث عدد مواطنيها المستخدمين للهواتف النقالة, فهي تحتل المركز رقم 42 بين بقية دول العالم الأخرى... تصوروا!
وفي عصرنا هذا, الذي يرتبط فيه الإنتاج ارتباطاً لا فكاك منه بالاتصال, وتعد فيه البنية التحتية للاتصالات عنصراً رئيسياً في أي نظام اقتصادي قائم على الخلق والابتكار, فلاشك أن كل هذه العوامل جميعها, تعني الكثير بالنسبة لتوفير الوظائف ونموها. والحقيقة أن نقص شبكات الاتصال فائقة السرعة