في نهاية يوم الثلاثاء ومع بدء إعلان نتائج العينات المأخوذة من صناديق الاقتراع الإسرائيلية، بواسطة محطات التلفزيون المحلية، وهي العينات التي أثبتت التجارب السابقة صدقها مع فروق طفيفة، خرج بنيامين نتانياهو زعيم حزب "الليكود"، الرافض لإقامة دولة فلسطينية من حيث المبدأ والرافض لأي انسحاب من الضفة الغربية، ليعلن تسليمه بالهزيمة ويردها إلى سياساته الاقتصادية المجحفة بالفقراء عندما كان وزيراً للمالية في حكومة شارون. بعده صعد عامير بيريتس على المنصة في حزب "العمل" وهو يبتسم ابتسامة عريضة بعد أن كشفت العينات عن فوز حزبه بأكثر من عشرين مقعداً ليعلن أن "العمل" بدأ يسترد عافيته وأن الجمهور قد منحه الثقة لبرنامجه الانتخابي الذي يركز في سياسته الاجتماعية على حقوق الفقراء ودعم الطبقات الضعيفة اقتصادياً.
كان أولمرت الذي كشفت العينات عن احتلال حزبه "كاديما" للمرتبة الأولى بين الأحزاب المتنافسة آخر المتحدثين من منصة حزبه. فالفائز دائماً كما جرت العادة الانتخابية، يكون آخر المتحدثين. بعد أن هنأ أولمرت أعضاء الحزب دخل مباشرة إلى طرح سياسته تجاه القضية الفلسطينية. في البداية أكد أن الحل الأمثل والأفضل هو الحل القائم على الاتفاق وليس على التصرف من جانب واحد، وبيّن أن الاتفاق يحتاج إلى مفاوضات مع الطرف الفلسطيني وأن منهج التفاوض الذي يختاره هو منهج خطة "خريطة الطريق" بمراحلها المتعددة، والتي تبدأ بتفكيك المنظمات الفلسطينية المسلحة، وإقرار الهدوء ومنع العنف، ثم تمر بإعلان قيام الدولة الفلسطينية ذات "الحدود المؤقتة" في مناطق السلطة، لتنتهي في المرحلة الأخيرة بالتفاوض على الحل النهائي وترسيم الحدود الدائمة لكل من الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية بموجب اتفاق دائم!
إن بداية الخطاب تتفق -من وجهة نظري- مع البرنامج السياسي المكتوب الذي تقدم به حزب "كاديما" كوثيقة انتخابية للناخب الإسرائيلي، لكنه في ذات الوقت خطاب يتناقض مع تصريحات أولمرت منذ حوالى شهر والتي أعلن فيها أنه سيقوم بترسم حدود إسرائيل من جانب واحد، على أن تشمل كتل المستوطنات الكبرى والقدس وغور الأردن.
ومع ذلك فإن الجزء الثاني من خطاب أولمرت فتح الباب للاحتمالين، فبعد أن أكد أن "أرض إسرائيل الكاملة" هي إرث يتطلع إليه كل إسرائيلي، وبعد أن اعتبر أن الضرورة للتوصل إلى سلام مع الجيران الفلسطينيين تتطلب تقديم تنازلات مؤلمة في الضفة، ناشد الرئيس محمود عباس وممثل الشعب الفلسطيني -ويعني حركة المقاومة الإسلامية "حماس"- في إشارة ضمنية، إلى أن يتمثلوا النموذج الإسرائيلي، فلا يحلموا بالحصول على كل ما يريدون وأن يكتفوا بجزء منه كما ستفعل إسرائيل بقبول التنازل في الضفة. وبعد هذه المناشدة قال أولمرت إنه من المستحسن أن يحدث التفاهم سريعاً ليجلس الطرفان في أقرب وقت إلى مائدة المفاوضات. ثم استدرك قائلاً إنه لن يستطيع الانتظار إلى ما لا نهاية، فلقد حانت لحظة العمل الإسرائيلي، وبالتالي فإنه إذا اكتشف أن الطرف الفلسطيني غير مستعد لقبول العرض فإن إسرائيل ستقرر حدودها بنفسها، وذلك اعتماداً على التفاهم مع الولايات المتحدة وأوروبا!
إن دلالة الخطاب يمكن أن تتفرع، فإما أن يكون الجزء الأول مقصوداً به دعوة صادقة للتوصل إلى اتفاق، وإما أن يكون مناورة للإعلان بأنه لا يوجد شريك فلسطيني وأنه لا مفر من الحل المنفرد. وفي تقديري أن حكومة أولمرت القادمة لابد أن تضم حزب "العمل" الذي يفضل أن يكون الحل من خلال التفاوض والاتفاق، فإذا ما تعذر الاتفاق جاء الحل المنفرد كمخرج أخير. وهنا تبدأ المسؤولية العربية لتحويل الجزء الأول من الخطاب إلى برنامج ملزم لإسرائيل لا تستطيع الهروب منه.