ما من دولة في العالم إلا وتحاول العمل على تنمية قدراتها، واستغلال مواردها الطبيعية والبشرية من أجل التطور واللحاق بركب الدول المتطورة. إلا أن دول العالم الثالث تختلف في هذا الأمر عن بقية الدول، كونها ورثت أمراضاً مستعصية؛ بعضها داخلي محلي، وبعضها الآخر خارجي فرضته حقبة الاستعمار أو الانتداب أو الوصاية، قبل أن "تَسْتشرس" بعض الجماعات وتنقض على الحكم، سواء بتوافق اجتماعي أو من خلال استعمال الرصاص والوثوب إلى ظهور الدبابات، كما حدث في العديد من الدول العربية والأفريقية والأميركية الجنوبية أيضا.
ووجدت بعض الدول من العالم الثالث نفسها، بعد ثلاثين أو أربعين عاماً من الاستقلال، أنها لم تُكمل بناها التحتية، ولم تستغل مواردها البشرية الاستغلال الأصح!
واجهت هذه الدول مجموعة من الحقائق، كان لابد لها وأن تتعامل معها بحكمة -في حالات- وبغير حكمة في حالات أخرى! ولعل أهم هذه الحقائق مدى قدرة القوانين أو الأنظمة على قبول مصطلح التقييم! بل ومدى "تعويل" الأنظمة على التقييم!
فعلى المستوى السياسي، كثيرا ما يتم تقسيم أو "توزيع" الحقائب الوزارية على جماعات الضغط أو الموالين أو أصحاب النفوذ . وتستتبع ذلك شؤون الإدارة وقراراتها، واختيار الأشخاص لتولي إدارة مرافق البلاد الرئيسية، حيث تتوالد من مفهوم المحسوبية أو "الولاء" تراثيات عديدة، كلها ترفض التقييم، كون هذا الأخير يكشف زيف عملية الاختيار أو التعيين ويظهر أساسها غير القانوني. ولعلنا نتذكر أن أنظمة عديدة اكتشفت سرقات مالية ضخمة نتيجة سوء اختيار "الموالين"، ونتيجة الخضوع للعبة التوازنات في التعامل مع قوى الصراع على النفوذ داخل البلاد الواحدة، حيث تم التعامل رسميا مع هؤلاء بأسلوب "التقيّة". وبدلاً من أن يتم دعم مبادئ التقييم في الإدارة، وجدنا أن هذه الأخيرة تمعن في قراراتها العشوائية، وفي سياسة "أنا وابن عمي على الغريب"!
وجاء حينٌ من الدهر، قامت فيه بعض الحكومات، بالتوجس والحذر إزاء المؤهلين من أبناء وطنها، والذين صرفت عليهم الدولة ملايين الدولارات، ثم أودعتهم في المنازل، تحت شعار "خليك في البيت"، و"لنجرّب الدماء الجديدة". وحيث إن الدماء الجديدة لم تأخذ حقها من التدريب والتعليم، وأنها لم تعرك في خضم الحياة اليومية ومعطياتها، فقد ظهرت هنا نتائج الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها هذه الحكومات، إذ بدأت تُقيل هؤلاء الصغار، وتأتي بخبرات أجنبية لتحل محلهم. وبعد أن ظهرت في دول مجلس التعاون الخليجي خلال عقد الثمانينيات قضية توطين الكفاءات، كأحد أهم المطالب الوطنية، واستجابت لها بعض الحكومات، ظهرت في الألفية الجديدة قضية "الإحلال"، وامتلأت الإدارات بالكفاءات الوطنية التي جلّها مؤهل. وبعد حين اكتشفت بعض الدول الخطأ ذاته، إذ أن الإحلال بالمفهوم الوطني لم يكن بأفضل من التوطين، فقد تراجع الأداء، وفشلت الإدارة، وانتشرت رائحة الفساد هنا وهناك.
ماذا تفعل بعض الحكومات الخليجية التي تصرخ "آخ من بطني وآخ من ظهري"؟ فلا هي تستطيع أن تثق أو تركن إلى المواطن "الغر"، ولا هي تسلم من عبث ونهم الإداري الوافد؟
القضية هنا سوء اختيار، وليس مبدأ إدارة، أو توجها سياسيا. فالتحالفات التي تضرب بأطنابها في فكر المزاج السياسي، لا تزال حية ونشطة. وقضية التوجس من الكفاءات الوطنية، والتي يبثها البعض، تعاند ميزان العدالة من التوصل إلى حالة الاستواء!
والغريب أن بعض العلاقات الأخرى تلعب دوراً قوياً في المزاج السياسي، وفي مسألة النظر إلى الوطنيين بمنظار واحد. وهذا أسوأ ما يمكن أن يعيق عملية التقييم، ويجعل المسؤول "يغض" الطرف عن أية تجاوزات في النظم الإدارية أو سوء وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
في خضم هذا المناخ من الحرج والترقب والمجاملة، يتم استبعاد الكفاءات المؤهلة التي لا تستند إلى عمق جغرافي أو تاريخي! وتحرم الدولة من خبراتهم وحكمتهم وعلمهم، وتودع أسماؤهم في ملفات الإهمال، بينما تسير العديد من الإدارات والوزارات على عادة التقريب والإبعاد. وفي مناخ كهذا تضيع كل الخبرات... كل القرارات التي وضعها رجال يؤمنون بالإدارة الجيدة والإنتاج المتطور، وحفظ حقوق الموظفين والعمال. ويتراجع الأداء، وتسود الإدارات الشحناء والتكالب واصطياد الفرص دون وجه حق.
يذهب المواطن إلى إحدى الإدارات ليجد شباباً وقد تعطّروا و"نفخوا" غترهم بالنشاء... يتسلون بالكمبيوتر، ولا يرفعون رؤوسهم ليروا، أو يردون تحية رجل عجوز مواطن بيده معاملة. يحدث هذا في بعض الإدارات التي وظّفت شباباً، دون أن تؤهلهم تأهيلاً إدارياً وعلمياً للاتصال بالآخرين...!
كنا في بداية السبعينيات ينكبّ الشاب منا على دراسته الجامعية لإيمانه بأن الشهادة الجامعية والمؤهل العلمي هما أهم من أية اعتبارات أخرى... ولكن في هذا الوقت، حيث "يتسرّب" الشباب من الإعدادية إلى سوق العمل، وحيث يُرفضون في الوظائف لعدم الكفاءة وقلة الخبرة، لكن هاتفاً ليلياً من أحدهم يوظف ذلك الشاب، فيربح الشاب ويخسر الوطن.
لا