كيف نستطيع الاقتراب من تقييم حالة الثقافة في العالم العربي؟ كان هذا هو السؤال الجوهري الذي طرحناه على أنفسنا في "مرصد الإصلاح العربي". ومفهوم الإصلاح الذي تبناه المرصد يتسم بالشمول، لأنه لم يقنع بالوقوف عند الإصلاح السياسي الذي يشتد الجدل حول اتجاهاته وآليات تنفيذه وإيقاعه، ولكنه بسط رواقه لكي يشمل الإصلاح الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي والإصلاح الثقافي وتحولات المجتمع المدني. بل إن الدائرة اتسعت أكثر من ذلك لتشمل تحليل الخطابات السياسية بصدد الإصلاح، سواء كانت عربية أم غربية.
وكما قررنا من قبل لم يكن ثمة خلاف كبير حول مؤشرات الإصلاح السياسي، والتي يجمع عليها كل الفرقاء المهتمين بالإصلاح، سواء على مستوى النخبة أو على مستوى الجماهير. وذلك لأن الإصلاح أو فلنقل التحول الديمقراطي، يتمثل في عملية الانتقال من بنية سياسية سلطوية إلى بنية ديمقراطية وليبرالية. ومن هنا لابد من التركيز على إلغاء كل القيود والحدود التي تحد من حريات البشر، أو تقيد من حركة المجتمع.
وكذلك الحال بالنسبة للإصلاح الاقتصادي، والذي وإن كان هناك اتفاق عام على أن أحد أهم مؤشراته هو الاندماج بشكل متزن وتدريجي ومدروس مع الاقتصاد العالمي، إلا أن الخلاف يشتد بصدد الآثار السلبية لتحرير الاقتصاد على ميزان العدالة الاجتماعية في المجتمع، حتى لا يتم الإصلاح على حساب الطبقات الفقيرة والمتوسطة في المجتمع.
ولذلك حين انتقل فريق البحث الاجتماعي لكي يدرس ويقيم السياق الاجتماعي العربي، كان عليه أن ينشئ على غير مثال مجموعة متنوعة من المؤشرات الكفيلة بالإحاطة بكل جوانب البناء الاجتماعي العربي. وجاء التحدي المنهجي الحقيقي حين انتقلنا من السياق الاجتماعي إلى حالة الثقافة في العالم العربي. وتبدو المشكلة أولاً في أننا آثرنا أن نتبنى التعريف الأنثروبولوجي للثقافة، الذي يركز على العادات والقيم وأساليب الحياة، وليس على التعريف النخبوي للثقافة الذي يركز على الفكر والفن والأدب.
وحين نفكر في حالة الثقافة العربية فإن هناك أكثر من مدخل لذلك. وفي بحث لنا بعنوان "الوجوه الثلاثة للثقافة العربية"، قررنا أن للثقافة العربية المعاصرة ثلاثة وجوه: وجه يتعلق بالماضي، ووجه يتعلق بالحاضر، ووجه آخر يتعلق بالمستقبل. أما وجه الماضي فيتمثل في ظاهرة مفردة تلخص التحولات الثقافية العميقة التي لحقت بالمجتمع العربي في العقود الأخيرة، والتي أطلقنا عليها "إعادة اختراع التقاليد"! وهو وصف دقيق للمناخ الثقافي العربي الراهن، لأنه تسود المجتمع العربي في الوقت الراهن موجة عارمة من العودة للدين، والتي تتمثل في انتشار مظاهر التدين الشعبي بين مختلف الطبقات، وشيوع الفكر المتطرف تعبيراً عن رؤية مغلقة للعالم تقوم أساساً على التحريم والتكفير، وبروز الإرهاب ضد المسلمين وغيرهم ترجمة لهذا الفكر المتطرف.
أما وجه الحاضر للثقافة العربية المعاصرة فيتمثل أساساً في كيفية تفاعلها مع عاصفة القرن الحادي والعشرين، وهى العولمة بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في هذا المجال هناك خلافات شتى بين أنصار العولمة الذين يقبلون توجهاتها بدون تحفظ، وأعدائها الذين يرفضونها على وجه الإطلاق.
ويبقى وجه المستقبل للثقافة العربية المعاصرة، والذي يتمثل أساساً في غياب الرؤية الاستراتيجية العربية، مما أدى إلى خلل جسيم في الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
غير أن هذا الاتجاه والذي يمثل نوعاً من تطبيق منهجية التحليل الثقافي، يوجد بالإضافة إليه اتجاه آخر يميل إلى التحليل السوسيولوجي للمتغيرات الثقافية، سعياً وراء الاقتراب الشديد من الواقع العربي المعاصر.
وهذا هو الاتجاه الذي تبناه فريق البحث الاجتماعي بمرصد الإصلاح العربي، والذي ركز على مجموعة من المؤشرات ذات الدلالة، وهي حالة تجنس الثقافة العربية، وعقلانية الثقافة العربية، وحالة مجتمع المعرفة في الوطن لعربي، وحالة الأداء الإعلامي على الصعيد العربي.
ويبدو من الوهلة الأولى حين نركز على هذه المؤشرات مدى توفيق فريق المرصد في اختيارها. فالتجانس الثقافي شرط أساسي لتواصل جهود التنمية المستدامة، أما العقلانية فهي –كما كانت دائماً– لب وجوهر عملية التحديث. أما مجتمع المعرفة بمكوناته المتعددة، فهو الحالة التي نرجو الوصول إليها عربيا، لو نجحنا في اجتياز مرحلة بناء مجتمع المعلومات العالمي.
ويبقى تقييم الأداء الإعلامي لأن الإعلام إحدى الوسائل الرئيسية في صياغة الوعي الاجتماعي.
ونريد أن نقف قليلاً لنتأمل المؤشرات التي صاغها "مرصد الإصلاح العربي" لقياس مكونات مجتمع المعرفة. وفي هذا الإطار حاول تقرير المرصد تشخيص حالة مجتمع المعرفة العربي بجوانبه المختلفة وفقاً للأبعاد الأساسية التالية:
1– مؤسسات وأبنية إنتاج المعرفة، أو ما يمكن أن يسمى بالبناء التحتي لمجتمع المعرفة، ويدخل في هذا الإطار مؤسسات دعم البحث العلمي وتطويره، إضافة إلى عدد العاملين بالبحث العلمي، والميزانيات المرصودة لعم