في منتصف الشهر الجاري دعا عبدالعزيز الحكيم رئيس "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق"، من وصفها بـ"القيادة الحكيمة" في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلى فتح حوار واضح مع أميركا بهدف التفاهم معها على النقاط المختَلف عليها حول العراق. وسرعان ما أعلن الطرفان، طهران وواشنطن، موافقتهما على الحوار المنشود من خلال أعلى سلطة في كل منهما: فقد صرح الرئيس الأميركي في مؤتمر صحفي يوم 21 مارس الجاري، بمناسبة مرور ثلاث سنوات على مغامرته الفاشلة في العراق، بأن المحادثات الأميركية- الإيرانية هي لتوضيح مخاطر توسيع نطاق العنف الطائفي غير المقبول. وفي اليوم نفسه أجاز المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي الحوار قائلا: "إذا استطاع الإيرانيون التعبير عن آراء إيران بشأن العراق للأميركيين وإفهامهم وجهات نظرنا، فلا بأس بإجراء محادثات في هذه المسألة". بمعنى أن كل طرف قد برر قبوله للحوار تحت ذريعة إبلاغ الطرف الآخر بما يتعين عليه أن يفعله في العراق، وهو تبرير لا يقنع سوى السذج، فالحوار لا يمكن أن يكون سوى نوع من التفاوض حول مصالح مشتركة.
قد يخفق هذا الحوار -إذا ما انعقد أصلاً- في تحقيق الغاية منه، لكن دلالة الدعوة إليه لا يجب أن تغيب. في البدء دعت القوى نفسها إلى تدخل الولايات المتحدة الأميركية للإطاحة بنظام صدام في العراق، على اعتبار أن تقويضه مستحيل بغير هذه الوسيلة، وعندما تم التدخل الأميركي ووقع احتلال العراق وقضي على نظام حكمه، بل على مؤسسات دولته، وحدث ما حدث من تداعيات، ها هي القوى نفسها تدعو إلى تدخل إيراني لتطويق هذه التداعيات، والمعنى واضح كل الوضوح؛ فالعراق أصبح لديهم مستباحاً لكل تدخل خارجي، عالمياً كان أو إقليمياً، لكنه لا يمكن أن يكون مفتوحاً لدور عربي. وقد نذكر أن قيامة تلك القوى ذاتها قد قامت ولم تقعد عندما بدأ الحديث عن مبادرة لجامعة الدول العربية في العراق ووقع حينذاك الاتهام من قبلها (أي تلك القوى) بأن الجامعة إنما تريد إعادة ترتيب الأوضاع في العراق لصالح طائفة بعينها (أي سُنة العراق).
مع ذلك فإن "دعوة" الحكيم لا يجب أن تخفي عنا حقيقة الأمر، وهو كونها تمثل المشهد الأخير في سيناريو معد له سلفاً بين الولايات المتحدة وإيران، وهو ما كشفه "شون ماكورميك"، مساعد وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون العامة، يوم 22 من الشهر الجاري، عندما لفت إلى أن السفير خليل زاد كان قد حصل على تخويل بفتح قناة اتصال مع طهران عبر نظيره الإيراني في بغداد منذ أكتوبر الماضي، أي قبل "دعوة" الحكيم بنحو ستة أشهر.
لا يمكن للمرء أن يشهد تخبطاً في سياسة الدولة الأعظم، كما يشاهد الآن في السياسة الأميركية تجاه إيران، ففي هذا الشهر نفسه الذي بارك فيه الرئيس الأميركي فكرة الحوار مع طهران، صدرت وثيقة "استراتيجية الأمن القومي الأميركي" التي عرَّفت إيران بأنها الدولة التي تمثل الخطر الأكبر على الولايات المتحدة في المرحلة الراهنة، وهو ما يرسخ وضعها أميركياً في "معسكر الشر". وفي 20 من الشهر الجاري أيضا، صرح الرئيس جورج بوش بأن بلاده سوف تستخدم القوة ضد إيران إذا لزم الأمر لحماية إسرائيل، ثم عاد في اليوم التالي مباشرة (21 مارس) فأكد جدوى الحوار مع طهران، أما في 22 مارس –أي بعد تصريحاته عن جدوى الحوار بيوم واحد- فإن مساعد وزيرة الخارجية الأميركية "نيكولاس بيرنز" قد أضاف مزيداً من الرتوش إلى هذه الصورة العبثية لتخبط سياسة القوة الأعظم، بقوله إن الهدف الحالي للدبلوماسية الأميركية هو إبقاء إيران في موقف دفاعي "وعزلها دولياً". وهكذا تسعى الدبلوماسية الأميركية إلى فرض العزلة على إيران وكسرها في آن واحد! هذا ناهيك عن التخبط في الأهداف الاستراتيجية للسياسة الأميركية في صدد قضية الإصلاح السياسي؛ فمن شأن حوار كهذا أن يعطي شرعية لنظام حكم تصنفه الولايات المتحدة بأنه غير ديمقراطي، إن لم يكن إرهابياً. وبالتالي تتردى صدقية السياسة الأميركية أكثر فأكثر، بغض النظر عن مضمونها أصلاً. فبينما ترفض الحوار، بل وتهدد بالعقاب حكومة اختارها الشعب الفلسطيني وفق انتخابات شهد بنزاهتها الجميع، تقدم على حوار مع دولة تعتبرها ركناً ركيناً في "معسكر الشر" وتصنف نظامها على أنه غير ديمقراطي.
وليس هذا بطبيعة الحال من قبيل استعداء الإدارة الأميركية على إيران، فقد بلغت السياسة الخارجية الأميركية من العشوائية مبلغاً يجعل توقعاتنا من أي تحرك لها شراً مستطيراً، ولكنه من باب التذكير لبعض العرب الذين يثقون في السياسة الأميركية ويركنون إليها؛ بأن عليهم أن يتوقعوا من هذه السياسة أن تقدم مستقبلاً على فعل أي شيء تراه في مصلحتها، بما في ذلك التضحية بهم! وإذا كانت الإدارة الأميركية قد قبلت اليوم التفاوض مع "معسكر الشر" الذي يفترض أنها أتت إلى العراق لتقويضه، فما الذي يمنعها مستقبلاً من أن تتحاور حول مستقبل العراق مع صدام حسين مثلاً، والذي أتت إلى العراق لإسقاطه؟
أثارت "دعوة" الحكيم ما كان يجب أن ت