كنت في الرياض في منتصف نوفمبر من العام الماضي، ووجدت نفسي بين عدد من الأصدقاء من الاقتصاديين السعوديين في بهو فندق الفيصلية الشهير، كانوا يسترخون بعد جلسات يوم طويل خلال المؤتمر الثالث لجمعية الاقتصاد السعودي. أخذت أستمع إليهم، فالاقتصاد كان موضوع الساعة ويجب أن يبقى كذلك. الأجواء يومها إيجابية والجميع منتشٍ بمكاسبه في سوق الأسهم. كان السعوديون يومها يستخدمون تلك العبارة اللذيذة "الطفرة" التي تعني الفرصة للتحول السريع من طبقة الكادحين إلى طبقة الموسرين في أيام وأسابيع.
تحلق حولهم بعض من أولئك الكادحين (نسبياً) يبحثون عن معلومة شاردة، لم يكونوا من "هوامير" السوق أو أعضاء مجلس إدارة واحدة من الشركات المساهمة شاغلة الناس، وإنما مجرد أكاديميين، فلم يتوقع أحد معلومة عن سهم يشتريه أو يبيعه، وإنما كان السؤال الأهم "إلى أين يتجه السوق؟"، وإذا أراد أحدنا أن يكون دقيقاً أكثر يسأل: "متى أخرج من السوق؟"، وهذا السؤال الأخير الذي لم يجد اعتراضاً وإنما قبولاً من السامعين كان في الحقيقة إدراكاً واعترافاً بأن الأرقام القياسية التي حققها السوق يومها لم تكن طبيعية. الجميع كان يعرف أن السوق لا يمكن أن يكسب باستمرار، المهم "متى أخرج؟"، قبل أن تقوم القيامة. إنه سؤال المليون ريال أو أكثر.
بالطبع لم يجرؤ أي من أعضاء الجمعية، وجلهم من أساتذة الجامعة ما يضعهم في خانة صغار المستثمرين، على تحديد موعد، فكان ردهم تحليلاً علمياً، (وهم دوماً يردون بشكل غير جازم مستخدمين كلمات مثل: لعل.. وقد)، فقال أحدهم إن السوق قد يستمر في الصعود حتى الصيف المقبل، ومن أراد أن يغامر بأمان فله أن يصبر حتى يحين موعد الإجازة والسفر وهو الموعد حسب إحصائيات السنوات القليلة الماضية الذي يتراخى فيه السوق على يد جاني الأرباح من صغار المستثمرين المتطلعين إلى إجازة سعيدة ونتيجة انخفاض التعامل. بدا أن الآخرين وافقوه على تحليله هذا، ولكن من الواضح أنه كان تحليلاً خاطئاً وليس نبوءة فانخفض السوق قبل الصيف.
التحليل الذي يرقى إلى مقام النبوءة والذي سمعته تلك الليلة، هو أن السوق متضخم والأسعار مبالغ فيها، وأن الزيادات هي أموال الناس الواردة للسوق وليست قيمة السهم الفعلية، وأنها مسألة وقت و"ستنفجر البالونة"! أصبحت "بالونة السوق" مصطلحاً جديداً يلوكه الجميع بخوف مثل أنفلونزا الطيور والتي لا يعرف أحد متى ستضرب ضربتها، ولكنّ صاحبنا قدم حلاً ذكياً، لا أعتقد أنه انفرد به، كما أننا لم ننفرد بسماعه، فهو عضو في مجلس الشورى واقتصادي معروف ولابد أنه عرض فكرته هذه على مسؤولين ورجال مال مهمين، وهي أنه طالما أن هناك اتفاقاً على أن "البالونة" ستنفجر فالأفضل أن "تنسم" بيد الدولة الأمينة والرقيقة، وذلك بطرح مزيد من أسهم الشركات الكبرى مثل "سابك"، وتخصيص "بعض" إن تعذر "كل" الشركات الكبرى التي تملكها الدولة. قال صاحبنا إن طرح حصص بسيطة مثل 10 في المئة من هذه الشركات في السوق كفيل بامتصاص عدة بلايين من الريالات التي ستنتهي إلى أسهم "البلو شب"، وقد سمعت تلك الجملة أول مرة وتعني أسهم شركات المضاربة، والتي تفتقد إلى مقدرات رأسمالية حقيقية، وهو مصطلح مستورد من السوق الأميركي الذي يمكن أن نجد في تاريخ تقلباته الكثير مما نقارن سوقنا به، ومن لطف الله أنهم جربوا كل شيء قبلنا وحري بنا أن نبدأ من حيث انتهوا.
الشاهد فيما سبق أن المواطن السعودي لم يكن غافلاً عما يحصل، مدرك للمخاطر، ولكنه إغراء الربح السريع والثقة في الاقتصاد الوطني والدولة، وشعوره بأبويتها وقدراتها. كما أنه لا ينقصنا الخبراء والمختصون، وخلفنا تجارب الآخرين من أزمة سوق المناخ الكويتية العاصفة عام 82 وتلتها أزمة أخرى في سوق المال الكويتي الرسمي عام 87، إلى اثنين البورصة الأميركية عام 87 والذي خسرت فيه في يوم واحد 30 في المئة من قيمتها.
فما الذي حصل وكيف حصل ما حصل؟
سيقول قائل وما فائدة التلاوم؟ إنه سوقٌ الجميع يعرف أنه معرض للربح والخسارة؟ وقد قال الخبراء إن الأسعار مبالغ فيها، بل إن السوق لا يزال حتى اليوم وهو يعصف بملايين المستثمرين "فوق قيمته الحقيقية". كما أن التلاوم يفتح الباب للتشكيك والتسيّس، بل يعرض السوق لمزيد من التقلبات. بعض ما سبق صحيح ولكن سوق المال هو القلب الحقيقي للاقتصاد الرأسمالي ولابد من مراعاته وتصحيح نبضاته لضمان سلامته والتي بها تكون سلامة الاقتصاد الوطني. لابد من لجنة تحقيق مستقلة تقلب في كل الدفاتر وتنظر في كل الاحتمالات، تبحث عن الخلل حيثما كان فتقترح إصلاحات وتشريعات.
نعم لن يعود السوق إلى ما كان عليه يضاعف أموال المستثمرين في سنة واحدة أو أقل من ذلك، ولكن ليس بالضرورة أن ينهار أيضا، ولن يعالج بالتأكيد بتلك التصريحات "السادية" التي يطلقها بعض أركان الاقتصاد السعودي التي تلوم المستثمر، الذي سيقنع في الغالب ويكون سعيداً هانئاً لو حقق عوائد بنسبة 12 في المئة في السوق، فنسب كهذه هي التي جعلت من الأسواق الأمير