لاشك أن الخوف كشعور إنساني مترسخ في الذات البشرية يسهم أحيانا في إنقاذ حياتنا عندما يدفعنا إلى درء الأخطار الوشيكة والمحدقة بنا واتخاذ ما يلزم من إجراءات لتفاديها. لكننا نحن البشر غالبا ما نلجأ إلى تضخيم الأخطار والنفخ في أبعادها إلى درجة المبالغة كما يحصل حاليا مع أنفلونزا الطيور. فحسب دراسة مهمة نشرت مؤخرا في المجلة البريطانية المرموقة "نيتشر" مازال فيروس "إتش5 إن 1" المسبب لأنفلونزا الطيور بعيدا عن التحول إلى فيروس قاتل للبشر على الأقل بطفرتين كبيرتين وأخريين صغيرتين قبل أن يغدو وباء عالميا قاتلا. فالفيروس ينتقل إلى الطيور ويلتصق في أسفل الرئتين، لكنه لا يستطيع الالتصاق بالجزء العلوي من الجهاز التنفسي البشري. وما دمنا لا ننقل الفيروس إلى بعضنا بعضاً فلا داعي لإثارة المزيد من المخاوف التي لا أساس لها من الصحة. ومع ذلك يطلع على شاشة التلفزيون الأميركي متخصص كبير في علم الفيروسات بحجم العالم الشهير "روبرت ويبستر" ليخبر الأميركيين بأن: "هناك احتمالات كبيرة كي يتعلم الفيروس كيفية الانتقال بين البشر" مستطردا: "أعتقد أن المجتمع غير قادر على تقبل موت نصف السكان... أعتذر إن أخاف كلامي الناس، لكنه دوري أن أحذر الرأي العام".
آسف دكتور "ويبستر" لكنني أعتقد أن دورك الحقيقي يقتصر على تتبع فيروس أنفلونزا الطيور في أنابيب الاختبار وليس الدخول في تكهنات على شاشة التلفزيون. ولو أخذنا كلامك على محمل الجد فعلينا إما أن ننكب على بناء مركبات فضائية لمغادرة الأرض إلى الأبد، أو ننخرط في استئصال الطيور من على وجه البسيطة قبل أن تقتلنا. ولأن الخوف يشوش على الفروق القائمة بين الإنسان والطيور، فإن مشاهدي التلفزيون في المساء يتتبعون باهتمام كبير أخبار نفوق أسراب الطيور في باكستان وإسرائيل ويراقبون وصولها إلى الولايات المتحدة. ويتوجس القيّّمون على تربية الدواجن في أميركا من احتمال وصول الطيور المهاجرة المريضة إلى السواحل الشمالية لأميركا. والحال أنه رغم تأكيد التحاليل المخبرية لخطورة الفيروس على الطيور إذ يؤدي إلى قتلها فورا، إلا أن الأمر مختلف تماما مع البشر. ففي سنة 1997 سجلت بهونج كونج 18 إصابة بشرية بأنفلونزا الطيور وست وفيات، ورغم إخضاع آلاف الأشخاص للفحوص لم تسجل أية إصابة إضافية، فضلا عن أن 16% من المصابين طوروا مضادات حيوية دون أن تظهر عليهم الأعراض. ويبدو أن المرض ليس قاتلا للبشر كما تدعي ذلك وسائل الإعلام.
وحتى في حالة تطور الفيروس المسبب لأنفلونزا الطيور كي ينتقل بسهولة إلى الأجزاء العليا من الجهاز التنفسي للإنسان فإن سيناريوهات متنوعة تشير إلى أنه لن يتسبب في الوباء القادم. ويذكر في هذا السياق أن الأنفلونزا الإسبانية التي انتشرت مع نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي يتخوف الكثيرون من تكرار تجربتها المريرة بدأت بالبشر أولا قبل الوصول إلى الطيور. كما نتوفر حاليا على إمكانيات هائلة من اللقاحات والمضادات الحيوية والأدوية المعالجة للفيروسات وهي أمور لم تكن موجودة سنة 1918 عندما تفشت الأنفلونزا الإسبانية القاتلة. والأكثر من ذلك أنه ليس مؤكدا تمكن الفيروس من الانتشار بين البشر في حال انتقاله إلى الإنسان بفضل المناعة البشرية التي أصبحت أكثر قدرة على مكافحة الأمراض ما يُحجِّم من الخسائر الكبيرة في الأرواح. وإذا كان قد ثبت انتقال الفيروس بين الطيور فإن حظوظ تطوره كي ينتقل إلى الإنسان مازالت ضعيفة للغاية. وبينما يعتبر مثيرو المخاوف من الباحثين أن تحول الفيروس وانتقاله إلى الإنسان مسألة وقت لا أكثر، يرى البعض الآخر من العلماء الواقعيين أن هناك حظوظا كبيرة في أن يظل الفيروس المسبب لأنفلونزا الطيور محصورا في الحيوانات ولن يتحول أبدا إلى وباء واسع الانتشار.
وهب أن الفيروس انتقل إلى الخنازير وطرأت على مورثاته تغييرات ساهمت في انتقاله إلى البشر فإنه من غير المرجح أن يتسبب ذلك في قتل أعداد كبيرة من البشر. ولعل المثال الأوضح على ذلك هو وباء أنفلونزا الخنازير الذي انتشر سنة 1968 بعد تحول الفيروس وانتقاله إلى الإنسان، حيث لم يسفر المرض، كما كان متوقعا، عن هلاك أعداد كبيرة من الأشخاص. أما حالات الشلل التي مست حوالى ألف شخص فقد نتجت عن الأمصال التي حقن بها 40 مليون إنسان خوفا من تفشي وباء عالمي ثبت لاحقا أنه لم يصل قط إلى ذلك المستوى. وغالبا ما تثير كلمة الوباء الكثير من الرعب في نفوس الناس بينما هي لا تعني سوى ظهور الفيروس في مناطق متعددة من العالم تؤدي إلى الإصابة بالمرض. وبالرجوع إلى التاريخ نرى أن آخر وباء للأنفلونزا ظهر في الولايات متحدة سنة 1968 لم يخلف سوى 33 ألفاً من الضحايا، وهو العدد ذاته من الأميركيين الذي يسقط سنويا جراء الأنفلونزا، لذا لا داعي لتصوير كابوس وباء جديد على أنه نهاية العالم.
ورغم أن طهي دجاجة أو ديك رومي يقتل فيروس أنفلونزا الطيور ويقضي على أثره، إلا أن الخوف من انتقال الفيروس إلى الإنسان عبر الطعام بات منتشرا على نط