قوة (لا) الناعمة غير موجودة في قائمة التعامل السياسي عندنا، بل نؤمن بأن الانقلاب على الانقلاب سيعيد الأمور إلى نصابها، وهو ضلال اتبعناه منذ قرون. هذه المقدمة أردت بها رواية واقعة بسيطة لم تقلها قناة فضائية، ولم تعنى بها محطة إخبارية، كما أن دعاة "الجهاد" أبعد ما يكونون عنها. شيخ يدعو إلى اللاعنف في الريف، في بلد ما، يعطي درساً لأقل من عشرة أشخاص، في قرية لا يزيد سكانها عن مئة إنسان، اهتزت له أجهزت الأمن، وتساءلت: كيف يتجرأ هذا الأخرق أن يعطي درساً يدعو إلى السلام من دون موافقة رجال الأمن؟
طلبوه للحضور إليهم فرفض الامتثال وقال لهم لا، لن أحضر، يمكن أن تأتوا أنتم وتعتقلوني؟
قالوا له أنت تلقي درساً بغير ترخيص؟ قال لهم منذ متى احتاج الأنبياء أن يأخذوا ترخيصاً لنشر أفكارهم؟ قالوا أنت ممنوع من التدريس؟ قال سوف استمر وامنعوني أنتم، أما أن امتنع أنا فلا.
قالوا حسنا إن لم تحضر إلينا حضرنا نحن إليك لاستنطاقك؟ قال افعلوا ما يحلو لكم. فاقتحم المسجد الصغير رهط من عناصر الأمن فأحصوا المسجد عدداً، وأصغوا إلى درس الشيخ وجلين متوترين.
ثم حضر لمنزله أحد رجال الأمن مع جماعته، ليقول له أنت مخالف للقانون؟ قال حسناً أنا أعصي القانون الخطأ فعاقبوني عليه؟ قالوا له تحتاج إلى إذن للتدريس؟ قال هو منطق فرعون عندما آمن السحرة فقال لهم آمنتم به قبل أن آذن لكم.
أقلقت هذه الواقعة رجال الأمن، وقضت مضجعهم في العثور على حل لما يرونه مرضاً خطيراً، فبدأوا في إحصاء الحاضرين نساءً ورجالاً، وطلبوهم لمراجعة الفرع الأمني، فمنهم من استن سنة الشيخ وقال: لمن أحضر؟، وكان رجل قد نام في سجونهم وأقبيتهم سنتين ونصف لأنهم فتح موقعاً محرماً للمعارضة على الانترنت، ومنهم من راجع فبدأت "حفلة" الاستجواب، في أسئلة تبدأ من الطفولة عن نوع الحليب الذي كان يرضع، وهل أحد من أهله سجن أو هرب أو اعتقل أو قتل؟ هل هو حزبي وله توجه في الحياة أم يعيش نباتاً يدرس وظائف النبات ويتقيد بتعليمات المزرعة؟
وفي النهاية جاء التهديد والتخويف أن حياتهم مهددة ومصادر رزقهم مقطوعة. ولأن الحاضرين كانوا قد أخذوا لقاحات اللاعنف فلم يفعل لهم الحضور والتهديد شيئاً.
هذا الأسلوب في قول "لا" هو الذي أحرق نظام شاوسيسكو، في رومانيا، فمضى غير مأسوف عليه، حينما تعرضوا لراهب في مدينة "تيمي شوارا"، وقد يُفعل هذا مع داعية اللاعنف الذي ذكرناه. إن شعباً واعياً لا يمكن أن يركب رقبته ديكتاتور، فهذه حقيقة اجتماعية مثل دورة الفلك. وحين يؤمن الناس بطريقة هذا الشيخ اللاعنفية فإن سحر رجال الأمن سيزول.