لعلنا لا نحتاج إلى كثير من المبالغة للقول إن أزمة التعليم المزمنة في الدول العربية، تكاد تتجاوز في أهميتها جميع الأزمات والاختناقات الأخرى التي تعاني منها التجارب التنموية في هذه المنطقة من العالم. فمنذ عقود متقدمة من القرن التاسع عشر، والهم المُقيم على صدور الساسة في الدول العربية، وأيضاً المُصلحين، والمفكرين، ورجال التربية، ومُخططي المشروعات التنموية، الطموحة وغير الطموحة، هو هو دائماً: التعليم ولا شيء آخر غير التعليم. فما نسمعه الآن عن ضرورة "تحديث"، و"إصلاح" مناهج التعليم العربية، مكرر ومُعادٌ، منذ أيام رفاعة رافع الطهطاوي، ومحمد علي باشا، وما زال الحديث مستمراً عنه حتى يوم الناس هذا، وما زالت الكتب والندوات والمؤتمرات تتوالد عنه مع كل يوم جديد. وما بين مطالب علاج "الحالة التعليمية" العربية في تلك الأيام والآن، لا فرق سوى في التسميات، من "تحديث" و"تطوير" و"تثوير" –في مرحلة معينة- و"إصلاح" وحبل التسميات ما زال على الجرار. لكن أيضاً في كل مرة تبقى المساعي الحثيثة من دون نتيجة ملموسة ويبقى التعليم حديثاً ذا شجون. صحيح أن أول العلاج الجدي لأية مشكلة هو تشخيصها بدقة وبعناية، لكن عملية تشخيص مشكلة التعليم في الوطن العربي تحولت في حد ذاتها إلى ما يشبه حالة إدمان، من كثرة ما قيل عنها من كلام، وما سال في شرحها والتنظير لها من مداد..
ومع ذلك ما زال سؤال اللحظة الآن بالنسبة لنا كعرب هو: هل إخفاق عملية تحديث التعليم في الوطن العربي هو السبب في إخفاق العديد من التجارب التنموية العربية، أم أنه تعبير عنها فقط، ومظهر من مظاهرها، لا أكثر؟ أعرف أن هذه حلقة مُفرغة، تذكّر بمسألة الدجاجة والبيضة، ولا تعِد بجواب شافٍ، ولكن قبل أن نعرف كيف نخرج منها، سنبقى نصطدم في كل مرة، بالعتبة الإشكالية نفسها، وبالمعوقات التنموية ذاتها، وسنصادف الإخفاق في كل محاولات تفكيك، أو تجاوز البنية التحتية للتخلف، التي يرزح فيها الوطن العربي، منذ عقود، بل قرون.
وفي الوقت الذي نرى نماذج لنجاحات باهرة كتلك التي حققتها دول آسيوية أقلعت فيها التجارب التنموية بنجاح على رافعات التجربة التعليمية، كسنغافورة وماليزيا مثلاً. نراها تتحول إلى مصدر إلهام حتى لأكثر الدول الغربية تقدماً، وفي البال هنا صرخة الإنذار التي أطلقها الأميركيون حول تردي مستويات التعليم عندهم، يوم رفعوا شعار: "أمة في خطر"، فإننا في الوقت نفسه لا نجد إحساساً بالخطر كهذا، ولا رغبة في الاستلهام مشابهة من تجارب الآخرين، في الوطن العربي في الأغلب الأعم، للأسف. لنأخذ مثلاً، الهند، تلك الدولة القارة، والتي تتكفل بإطعام ربع سكان الكرة الأرضية، هم مواطنوها، ألم تحقق قفزتها التنموية الباهرة الآن، على أكتاف عمليات تطوير التعليم، وفي أقسى ظروف يمكن تصورها؟ ألا تعتبر بنغالور الآن، بمثابة سيلوكون فالي أخرى، تثير غيرة الأميركيين أنفسهم، بقدرتها على تخريج أجيال متتالية من عباقرة المهندسين، وصناع الغد الآتي، الذين يرسمون الآن للعالم أجمع ملامح اقتصادات الموجة الثالثة؟ لماذا لا نتعلم نحن العرب، من الهند وماليزيا وغيرهما من دول آسيوية هي أقرب إلينا ثقافياً، وكانت حتى الأمس القريب معنا في الهمِّ شرق؟!
إن الإعاقة التنموية التي يعاني منها العديد من المجتمعات العربية المعاصرة، مُعقدة للغاية، من حيث اختلاط الأسباب بالنتائج في الحلقة المفرغة المشار إليها أعلاه، وأيضا من حيث العجز عن تجاوز أخطاء الماضي، ومعوقاته التنموية، وفي مقدمتها عدم القدرة على تفعيل رأس المال البشري العربي المتوافر، بحكم قصور مخرجات التعليم العربية من جهة، وعدم ملاءمتها لمتطلبات أسواق العمل من جهة أخرى، وقبل أي شيء آخر، لعدم وجود الرغبة الكافية للتعلم من الآخر، الثقافي والحضاري، كائناً من كان.