إن أكثر السمات بروزاً ولفتاً للنظر الآن في منطقة الشرق الأوسط هي غياب توازن القوى. والنتيجة المترتبة عن هذا, أنه لا شيء يلوي يد القوي أو يحول بينه وبين تحقيق أهدافه أياً كانت, في حين يحاول الضعيف صد اللطمات والهجمات الموجهة إليه, بكل ما أوتي من قوة. ولذلك فقد أصبح العنف والعنف المضاد, والإرهاب والإرهاب المضاد, جزءاً من روتين الحياة اليومية, بينما جرى تطبيع مشاهد الموت والدماء حتى أضحت أمراً مألوفاً في الشارع الشرق أوسطي. وأي دليل أقوى على انهيار النظام العالمي وانعكاساته الكارثية على المنطقة, مما نراه من شلل وعجز دولي في لجم ثنائي قوى العنف وهما يفعلان في العراق وفلسطين الأفاعيل, دون أن يقف أحد في وجههما أو يردعهما؟ وفي كلتا الساحتين أو البلدين, تواصل كل من الولايات المتحدة وإسرائيل فعل ما بدا لهما, دون أن تخشيا أحداً.
وبنظرة أوسع للأحداث, يستطيع المرء رد هذا المشهد المروع في المنطقة, إلى عاملين رئيسيين, وعوامل أخرى ثانوية.
مما لاشك فيه أن العامل الرئيسي الأول, إنما يتمثل في انهيار الاتحاد السوفيتي قبل نحو خمسة عشر عاماً خلت تقريباً, متبوعاً بالغياب النسبي لروسيا عن المسرح الشرق أوسطي منذ ذلك الوقت. وبالنتيجة فقد عجزت كبريات الدول العربية، ومنظمة التحرير الفلسطينية, عن استعادة صحتها وعافيتها, منذ لحظة موت راعيها وحليفها السوفيتي السابق. لكن بسبب الطفرة الاقتصادية الكبيرة التي حققتها روسيا مؤخراً, بفضل عائدات النفط والغاز, فقد شرع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في محاولة العودة مجدداً إلى المنطقة, واسترداد بعض النفوذ الروسي القديم فيها. وقد تجلت هذه المحاولة بصفة خاصة, في التدخل في أزمة البرامج النووية الإيرانية. وبما أن روسيا لم تزل متوعكة إلى حد ما, فإن رئيسها يعلم جيداً أن عليه توخي الحيطة والحذر, خوفاً من إثارة غضب "الأخ الأكبر" الأميركي, وإذكاء روح الحرب الباردة فيه, خاصة وأن مثل هذه الروح لا تحتاج إلا إلى هبة ريح خفيفة تضرم نارها.
في الأيام السوفيتية الخوالي, لم يكن الدعم الذي تقدمه موسكو للعرب مثالياً ولا خالياً من التقصير والنقائص, غير أنه كان من القوة والهيبة بما يكفي لكبح جماح كل من واشنطن وتل أبيب, ووقف استئسادهما على العرب. ولو كانت هناك قوة دولية مكافئة لأميركا وإسرائيل اليوم, لما حدث هذا الدمار الذي لحق بكل من المجتمعين العراقي والفلسطيني, جراء عقد ونصف من العقوبات والحروب والاحتلال. أما العامل الثاني الرئيسي الذي أسهم في تشكيل المشهد الشرق أوسطي المعاصر, فمرده إلى توطد التحالف الأميركي الإسرائيلي الآن أكثر من أي وقت مضى. وهو تحالف بلغ مدى, تمكنت فيه إسرائيل وأصدقاؤها في الولايات المتحدة الأميركية, من بلورة ورسم السياسات الأميركية الشرق أوسطية, باتجاه معادٍ للمصالح العربية.
وغني عن القول إن واشنطن قد دفعت ثمناً فادحاً لتحيزها هذا, بإثارتها لغضب وعداء قطاعات واسعة من الرأي العام في العالم العربي الإسلامي لها.
أما العوامل الثانوية التي أدت لغياب أي شكل من أشكال توازن القوى في المنطقة الشرق أوسطية, فتتلخص في عجز الاتحاد الأوروبي عن بلورة سياسات موحدة إزاء المنطقة, مشفوعة بالانقسامات والعجز التاريخيين اللذين اتسم بهما العالم العربي نفسه. وبسبب عجزهم وخشيتهم من الغول الأميركي, يشترك العرب والأوروبيون معاً في تحمل القسط الأكبر من وزر المآسي الجارية حتى الآن في العراق وفلسطين.
وعلى رغم كل الأدلة الواضحة على إخفاقات المسعى الأميركي في العراق, فها هو الرئيس بوش يؤكد استمرار بقاء قواته هناك حتى عام 2009 على الأقل, إن لم يكن إلى ما بعد ذلك. وفي الوقت الذي ينزلق فيه العراق نحو حرب أهلية ارتسمت وتشكلت ملامحها في الأفق, ها نحن نراه يتحدث عن تحقيق نصر وهمي هناك. وفي تعنته ورفضه لتحمل أية مسؤولية تجاه حربه الكارثية على العراق, ما ينم عن عزمه على الإلقاء بهذا الوزر على عاتق خلفه. وبين هذا وذاك, تروج الشائعات عن مضي واشنطن قدماً في بناء قواعد عسكرية دائمة لها هناك, بعيداً عما يقال عن نيتها وترتيباتها الخاصة بوضع حد لاحتلالها للعراق!
وعلى غرار ما تفعل واشنطن, فليست تل أبيب في عجلة من أمرها هي الأخرى, لوضع حد قريب لاحتلالها للأراضي الفلسطينية. فمن المتوقع لحزب "كاديما" اليميني الذي يتزعمه رئيس الوزراء الحالي بالإنابة, إيهود أولمرت, الفوز بغالبية المقاعد في الانتخابات العامة المرتقبة يوم الثلاثاء المقبل. وعلى الرغم من ادعاء أولمرت وحزبه, السعي إلى تحقيق تسوية سلمية للنزاع, تقوم على الإعلان عن دولتين مستقلتين تعيشان جنباً إلى جنب في فلسطين وإسرائيل, إلا أن ما يفرضه أولمرت من حصار وما يلحقه بحياة الفلسطينيين من دمار يومي, لا ينبئان عن أية نوايا جادة لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الوطنية, التي طالما دغدغت خيال الفلسطينيين وشكلت أحلامهم.
فما أن تكمل إسرائيل تشييد جدار العزل الأمني الذي تعك