"كلا، لم أرَ قط طائرة في حياتي"، هكذا رد "تاي يونجزيانج" على محاوره وهو يقف بجانب منزله المتواضع الواقع أسفل أحد الأودية السحيقة.
"يونجزيانج" لم يسبق له أن شاهد أيضاً شاشة التلفزيون في حياته. لكن الرجل أظهر سعادة كبيرة عندما استطاع أخيراً أن يرد بالإيجاب على سؤال محاوره عن الصين. هل سمعت بالصين؟ قال له المحاور:"نعم، أعرف الصين" أجاب"يونجزيانج" البالغ من العمر 68 سنة: "إنها بلد يحكمها أناس يفترض أنهم يساعدوننا". ويقصد الرجل باستخدامه ضمير الجماعة شعب "الدونجزيانج"الذي ينتمي إليه ويعتبر إحدى الأقليات العرقية التي عاشت في الصين لأكثر من ثمانية قرون قضتها متنقلة بين الجبال الموحشة والأراضي العقيمة ضمن إقليم "جانسو" بإحدى أكثر المناطق عزلة في الصين. وحسب آخر إحصاء للسكان يقدر تعداد شعب "الدونجزيانج" بحوالى 513 ألفاً يعيش السواد الأعظم منهم حول مقاطعة "دونزيانج". ومن بين 25 قرية في المقاطعة، توجد 19 لا يعيش فيها أي شخص صيني. كما أن أغلب السكان لا يتحدثون الصينية، والبعض منهم مثل "يونجزيانج" لا يحمل سوى أفكار غامضة عن الصين، رغم أنه يعيش في وسطها.
وقد ساهمت العزلة الجغرافية التي تحيط بإقليم "جانسو" في حفاظ شعب "الدونجزيانج" على ثقافته الإسلامية، فضلاً عن لغته القديمة. لكن العزلة حرمت أيضاً السكان من الاستفادة من الازدهار الذي يعم المناطق الصينية الأخرى. وهكذا أصبح شعب "الدونجزيانج"، وهو واحد من 56 أقلية عرقية معترف بها رسمياً من قبل السلطات في بكين، من أفقر سكان الصين وأكثرهم أمية. وفي أحد أيام الجمعة بعد يومين من انتهاء عاصفة ثلجية غطت الجبال المحيطة بطبقة كثيفة من الثلوج وغلفت الطرق الضيقة للقرى برداء شفاف من الجليد، خرج رجال مسنون يخوضون بخطواتهم التي أثقلتها السنون الثلج الكثيف للوصول إلى المساجد المنتشرة في قراهم لأداء صلاة الجمعة. ورغم أن الفقر المنتشر على نطاق واسع يمنع الأهالي في بعض الأحيان من إرسال أطفالهم إلى المدارس، فإنهم لا يتوانون في بناء المساجد، أو إقامة مقابر إسلامية لدفن موتاهم.
"ما علي" إمام مسجد في قرية "هانزيلين" يبلغ من العمر 36 سنة قال "إن شعب "الدونجزيانج" كان دائماً يدين بالإسلام". وحتى بتواجد السكان وسط منطقة صينية تعتبر معقل الإسلام، إلا أنهم اكتسبوا سمعة بأنهم الأكثر تديناً وتمسكاً بالدين من أي منطقة مسلمة أخرى. وفي هذا الصدد يقول "ما كي" وهو مزارع في الخامسة والسبعين من عمره :"كان الناس في السابق متدينين ولا زالوا إلى حد اليوم". بيد أنه كباقي المناطق في الصين بدأت الحداثة تزحف رويداً رويداً عبر الطرقات الملتوية نحو مناطق المسلمين لتمارس إغراءها على الشبان. فقد أصبحت الهواتف المحمولة وسراويل الجينز، فضلاً عن مقاهي الإنترنت منتشرة في المقاطعة منذ عدة سنوات. كما انتشرت السجائر والمشروبات الكحولية والغذاء المعد على طريقة غير إسلامية نتيجة نزوح الموظفين الصينيين للعمل في المنطقة. "ما شانليج" التي تبلغ 22 عاما ترى أن "الأجواء الإسلامية تتراجع مع مرور الزمن، غير أن الأهالي يدركون ذلك ويريدون حماية الإسلام" مضيفة أنها تربت وفي داخلها شعور قوي باختلافها عن الصينيين، حيث مازالت تذكر كيف كانت والدتها تحكي لها قصصاً عن اختبائها في الكهوف عندما كانت طفلة خوفاً من قدوم الصينيين لقتلهم، لكن ذلك لم يحدث قط.
واليوم بعدما أصبحت "ما شانليج" مدرسة، وبعد قضائها ثلاث سنوات في معهد مهني في مدينة "تيانجينج" أرادت أن تشق طريقها كمصففة للشعر، لكن أسرتها المحافظة اعتبرت أنه من غير اللائق لفتاة غير متزوجة أن تسافر لمسافة بعيدة عن البيت. وفي هذا السياق قالت "شانليج": "يرغب الكثير من الناس في الذهاب بعيداً ورؤية الصين، لكن غالباً ما لا توافق أسرهم حتى أضحت المنطقة منعزلة تماماً". ولسنوات عديدة اعتقد الكثير من الباحثين الصينيين أن شعب "الدونجزيانج" ينحدر من الجنود المغول في جيش جنكيز خان الذي استقر في القرن الثالث عشر في "جانسو" إبان حكم المغول للصين في عهد أسرة "يوان"، لكن عدم تحديد أصول شعب "الدونجزيانج" بالتدقيق ولد لديهم شعوراً بالنقص. وفي هذا الصدد يتذكر "زيونج"، وهو مؤرخ نشأ في المنطقة لكنه انتقل إلى عاصمة الإقليم أنه: "عندما سألني أحدهم في صغري عن أصل شعب "الدونجزيانج" لم أستطع الإجابة حيث اجتاحني شعور شديد بالخجل". ومنذ ذلك الحين قرر "زيونج" الانكباب على الإجابة عن ذلك السؤال الذي أرّقه لفترة طويلة فراح ينقب في المكتبات ويدرس الخرائط، حيث توصل إلى أن بعض قرى "الدونجزيانج" تتقاسم الأسماء نفسها مع بعض الأماكن الموجودة في دول آسيا الوسطى مثل أوزبكستان. كما أنه اكتشف وجود عادات ثقافية مشتركة مثل عادة تقطيع المزارعين للدجاج بعد ذبحه على الطريقة الإسلامية إلى 13 قطعة، فضلا عن الشبه في الملامح، حيث يقترب شعب "الدونجزيانج" في صفاته الجسدية من سكان آسيا الوسطى، بخلاف عرق "الهان" الذي ينحدر منه غالبية الصينيين. وقد قاد