حين أمر مسؤولو إدارة بوش بإرسال ما يزيد على 150 ألف جندي إلى بغداد عشية شن الحرب قبل ثلاث سنوات, كانوا على قدر كبير من الثقة والاطمئنان إلى أن العراق سرعان ما سيتحول إلى ديمقراطية مزدهرة تحركها طاقة النفط. لكن ما أن أثبتت الحقائق على الأرض وردية هذه الأحلام ومغالاتها في التفاؤل, حتى انحسرت الآمال والتطلعات ذاتها, إلى درجة انصب فيها الاهتمام على العمل العسكري الكفيل بإلحاق هزيمة ساحقة بالمتمردين السنة, والإسراع بإجراء الانتخابات العامة, أملاً في تنصيب نظام سياسي جديد هناك. لكن وبدخول ذلك النزاع عامه الرابع الآن, فقد أضحت إدارة بوش في مواجهة تحد جديد, هو شبح الحرب الأهلية. وبالنتيجة, فقد انحسر الحلم الأميركي في العراق, أكثر من ذي قبل.
والشاهد أن هذا الحلم قد دخل تدريجياً في سلسلة متتابعة من الاحتمالات والتمنيات: إذا ما أمكن للعراق تفادي اندلاع حرب أهلية شاملة, وفيما لو تماسكت وتوحدت قوات الأمن العراقي الجديدة, وفيما لو شارك المسلمون السُنة والشيعة والأكراد معاً في حكومة وحدة وطنية جديدة, فربما كان في ذلك ما يكفي لبدء الإدارة في خفض عدد جنودها وقواتها المرابطة في العراق اعتباراً من منتصف العام الجاري, على حد قول مسؤولي الإدارة. لكن من جانبه قال الرئيس بوش في حديثه الأسبوعي الذي أدلى به يوم السبت الماضي "ربما يصعب أحياناً فهم الطريقة التي يمكننا بها القول إن تقدماً ما يجري على الأرض". وعلى رغم اعترافه الصريح بسوء معظم الأخبار الواردة من العراق مؤخراً, إلا أنه أكد أن "الاستراتيجية الأميركية إنما ستؤتي أكلها وثمارها بكل تأكيد, حتى وإن كان ذلك على نحو بطيء ومتئد". وعلى صعيد آخر قال مسؤول أميركي على صلة مباشرة بالسياسات الأميركية في العراق, "ربما نفشل الآن, غير أني أعتقد أننا سننجح في نهاية الأمر وإن تحقيق النجاح لن يكون بالأمر السهل, ومما لاشك فيه أنه سيستغرق زمناً طويلاً".
ولم يعد ثمة جديد في مثل هذه النبرة على أية حال. فاعتباراً من الرئيس بوش نفسه, نزولاً إلى قاعدة الهرم الإداري, تم الاعتراف التكتيكي قبل ما يزيد على العام, بأن محاولة بسط الأمن والاستقرار في العراق, لهي مهمة أصعب وأكثر تعقيداً مما قدر لها بكثير, لحظة شن الحرب في عام 2003.
غير أن محللين مستقلين للسياسات الخارجية الأميركية, يتحدثون عما يرون فيه مؤشراً على حدوث تحول كبير في الموقف الأميركي, وإعادة تحديد للأهداف في العراق, بما في ذلك توقعات المسؤولين لاحتمال بقاء العراق في حالة من الاضطرابات وعدم الاستقرار لعدة سنوات مقبلة. وكما جاء على لسان دونالد رامسفيلد في الشهر الماضي, فإن ما سيحدث في العراق لن يكون مثالياً ولا نموذجاً ديمقراطياً مثلما هو الحال عندنا هنا في أميركا. إنما سيكون الحل حلاً عراقياً صرفاً, سواء على الصعيد السياسي أم الاقتصادي أم الأمني. أما جيمس إف. دوبينس –المبعوث الخاص السابق في ظل إدارتي كلينتون وبوش الأب- فقد لاحظ من جانبه "أننا كنا قد قررنا مبدئياً, البقاء في العراق حتى لحظة اندحار التمرد وهزيمته تماماً. غير أننا أجرينا تعديلاً جوهرياً على ذلك الافتراض قبل عام مضى تقريباً, بقولنا إن بقاءنا سيستمر حتى تتمكن الحكومة العراقية الجديدة وقوات أمنها وجيشها من التصدي للتمرد والتعامل معه". وبذلك فقد أعدنا تعريفنا للنصر بمدى قدرة العراقيين, وليس بمدى قدرتنا نحن على إلحاق الهزيمة النهائية والساحقة بالتمرد.
ولكن المشكلة أن هذا المعيار الأخير للنصر نفسه, أضحى حالماً وبعيد المنال الآن, على حد قول "دوبينس" الذي يعمل حالياً بـ"مؤسسة راند". ومضى شارحاً رأيه هذا بقوله: "من المرجح في الوقت الحالي, أن نكتفي بمجرد خفض وجودنا العسكري هناك, وتركنا للعراقيين تولي مهامهم الأمنية بأنفسهم, بما يجنب بلادهم الانجراف إلى حرب أهلية أوسع نطاقاً مما هي عليه الآن". يذكر بهذه المناسبة أن تصاعد المواجهات وأحداث العنف المتبادل ما بين المسلمين السنة والشيعة خلال الأسابيع القليلة الماضية التي أعقبت أحداث سامراء, التي وقعت في الثاني والعشرين من شهر فبراير المنصرم, قد أصاب المسؤولين في الدوائر الأميركية بما يسمى بلحظة الخوف, على حد قول أحدهم. وما المقصود بهذه اللحظة سوى إدراك المسؤولين لإمكانية بلوغ المواجهات حداً يصعب على أية إجراءات أمنية عسكرية أميركية, السيطرة عليها وكبح جماحها. وفي أعقاب أحداث 22 فبراير الدامية في سامراء, قال السفير الأميركي في بغداد زلماي خليل زاد, لقد أطلقنا المارد من عقاله, وهناك مجهودات حثيثة جارية للحيلولة دون اندلاع حرب أهلية واسعة. من جانبه رد رامسفيلد على سؤال حول ما إذا كان ممكناً للقوات الأميركية أن تتدخل في نزاع مسلح بين العراقيين أنفسهم بقوله: "إن خطتنا تتلخص في منع نشوب الحرب الأهلية من حيث المبدأ. أما في حال حدوثها, فإن الصحيح من الناحية الأمنية, أن نترك للقوات الأمنية العراقية, واجب التعامل معها إلى المدى وبالقدر الذي تستطيعه".
وقب