يوم السبت الماضي عندما احتجت إلى مساعدة لنقل صناديق كتب ثقيلة من شقتي في وسط باريس إلى محل للتخزين استعنت بخدمات عاملين حصلت على عنوانيهما من ملحق الجرائد الخاص بالإعلانات. في تلك اللحظة كانت شوارع باريس غاصة بجموع المتظاهرين الذين نزلوا إليها احتجاجا على قانون عقد العمل الأول الذي اقترحه رئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دوفيلبان ويخول لأرباب العمل صلاحية تسريح الشباب خلال السنتين الأوليين لبدء العمل. ونظرا للحواجز الكثيرة المقامة في الشوارع تحول الانتقال إلى حي لا يبعد كثيرا عن مقر سكناي إلى مهمة شاقة. وفي محاولة سائق عربة النقل التحرك عبر الشوارع المزدحمة أصبح العاملان، وهما مهاجران عربيان، أكثر غضبا لما يجري أمامهما حيث وصف أحدهما الاحتجاجات "بالغبية" لأن منظميها حسب قوله ليسوا سوى "دمى تحركها الأحزاب الشيوعية والاشتراكية"، ثم أضاف "إنهم يلحقون الضرر بنا". وبقوله ذلك إنما يعني العامل الجاليات المهاجرة وأبناءهم الذين يعيشون في فرنسا، خاصة المقيمين منهم في الضواحي المنعزلة، حيث تصل البطالة في صفوفهم إلى أكثر 50% في بعض الأحيان.
وبالطبع كان أصحاب العمل على حق؛ فأي شخص يمتلك معرفة أولية بمبادئ الاقتصاد لا بد أن يقر بأنه إذا لم يستطع رب العمل تسريح موظفيه، فلن يقدم على توظيفهم سلفا. وفي ظل قوانين العمل الصارمة أصبح من المستحيل على أصحاب الشركات إقالة عمالهم ما ينعكس سلبا على الجماعات الهشة مثل الأقليات، لاسيما المهاجرين والشباب المبتدئين الذين يفتقدون إلى الخبرة الطويلة، أو الذين لم يتلقوا تعليم النخبة الفرنسية، لكنهم يحتاجون مع ذلك للحصول على عمل يخرجهم من دائرة البطالة التي تمس شريحة واسعة من الشباب الفرنسي. ويذكر أن هذه هي المرة الثانية التي تجتاح فرنسا مظاهرات احتجاجية عارمة في أقل من أربعة أشهر.
ويبدو أن المظاهرات الحالية جاءت كرد على المظاهرات السابقة إذ تختلف في أهدافها عن مطالب شباب الضواحي. فبينما كان هؤلاء الشبان المهمشون يطالبون بإحداث التغيير اللازم في البنيات الاقتصادية والتشريعات ليتمكنوا من الحصول على وظائف، يصر منظمو المظاهرات الحالية على إبقاء الأوضاع كما هي عليه في تجاهل تام لمصلحة المهاجرين وأبنائهم.
وليست المسألة في ذات قانون عقد العمل الأول كما قد يعتقد البعض إذ أنه لا يمس سوى شريحة الشباب المبتدئين ولفترة لا تتجاوز السنتين يستقر بعدها الموظف في عمله طيلة حياته كما هي العادة في فرنسا، فضلا عن أن آثار القانون لم تدرس بعد، بل إن المسألة كلها تنحصر في خشية الفرنسيين من إحداث مراجعة شاملة ودقيقة لقوانين العمل الخانقة للدينامية الاقتصادية داخل فرنسا. ورغم انضمام بعض شباب الضواحي المقنعين إلى المظاهرات، فالاحتجاج بالنسبة لهم يظل احتجاجا على كل حال، إلا أنه لا أمل للمهاجرين في الحصول على العمل والاندماج في المجتمع الفرنسي إذا لم تسارع فرنسا إلى مراجعة قوانين العمل والتخفيف من صرامتها وعدم مرونتها. وليس مستبعدا أن تندلع في المستقبل القريب احتجاجات أكثر عنفا مما شهدته الضواحي في المرة السابقة في حالة استمرار الحال على ما هو عليه.
واللافت حقا أنك لن تسمع أبدا الساسة الفرنسيون يقرون بضرورة التغيير أمام الملأ، ولن تسمع منهم حتى ما هو معروف وبديهي من أن فرنسا ديمقراطية تمثيلية وبأنه إذا لم يرق للشعب القرارات السياسية التي يتخذها قادتهم المنتخبون فما عليهم سوى التصويت ضدهم في أقرب فرصة. وطبعا من المستحيل أن تسمع في فرنسا مثلا أن الطلبة الذين تسببوا في أعمال الشغب سيطردون من الجامعات، أو أن العمال الذين نظموا الإضراب عليهم ترك عملهم، أو التهديد بإنزال الجيش إلى الشوارع.
وبدلا من ذلك يظهر دوفيلبان كل مساء على شاشة التلفزيون مقترحا التسوية تلو التسوية في الوقت الذي يبحث فيه مناصروه عن غطاء لدرء الاستياء العام. أما زعماء النقابات فقد استمروا في تعنتهم رافضين الإدلاء بتعليقات للصحافة، أو الاستماع لمطالب الحكومة الفرنسية بالجلوس إلى طاولة المفاوضات إلا بعد إلغاء القانون. ولم تفوت النقابات هذه الفرصة لاستعراض عضلاتها والتهديد بالدخول في إضراب عام يشل الاقتصاد الفرنسي. ويحدث ذلك لأن فرنسا مازالت واقعة تحت أسر عقلية سياسية ترجع إلى القرون الوسطى، حيث يعلن المحتجون بأن الكلمة الأخيرة هي للشارع وليس للساسة. كما أن التقاليد السياسية القديمة مازالت سارية في المجتمع الفرنسي إذ إن الكثير من الفرنسيين يعقدون المقارنات بين ما يجري حاليا وبين اجتياح الجماهير الغاضبة البرلمان الفرنسي سنة 1795 عندما احتج الشعب على ارتفاع أسعار البضائع، غير أنه بعد استجابة الحكومة آنذاك للمطالب الشعبية بمراقبتها للأسعار اشتكى المحتجون باختفاء البضائع من الأسواق وبيعها في السوق السوداء. وهو ذاته ما يجري حاليا على الساحة الفرنسية حيث يطالب الطلبة بتطبيق قوانين اقتصادية منفصلة تماما عن الواقع. وقد أدهشني كثيرا أحد الطلبة الغاضبين عندما سألته عن سبب معارض