تعتبر كوريا الجنوبية اليوم واحدة من أكثر المجتمعات التي تنمو فيها تكنولوجيات المعرفة والاتصالات سواء لجهة الإضافة إلى وسائط المعلوماتية ووسائل الاتصالات الالكترونية وتحسينها أو لجهة التوسع في استخدامها. فنتيجة لخطط حكومية واضحة في أهدافها ومضامينها ووسائلها ومداها الزمني، تشهد هذه البلاد، التي لم تبدأ مرحلة التحول من مجتمع زراعي إلى اقتصاد قائم على التصنيع والتصدير والمعرفة إلا في ستينيات القرن المنصرم، ما يمكن وصفه بثورة غير مسبوقة في هذا الميدان. من تجليات هذه الثورة، أنه يندر اليوم وجود أسر لا تملك الكمبيوترات الحديثة المصنوعة محلياً، أو شركات لا تدير كل معاملاتها اليكترونياً، أو فصول دراسية غير مرتبطة بشبكات الانترنت. إلى ذلك صارت مقاهي الانترنت وغرف الألعاب الالكترونية تنمو بسرعة صاروخية سواء لجهة أعدادها أو نطاقها الجغرافي. إذ وصل عددها إلى مئات الآلاف وتعدى انتشارها في المدن إلى القرى والمناطق النائية، وبالتالي باتت أحد القطاعات الحيوية الجاذبة للاستثمارت الضخمة والمحققة للأرباح بسهولة. وكما هو الحال في مجتمعات أخرى، فان أكثر مستخدمي وسائط المعرفة والمعلومات والاتصالات الالكترونية، وأكثر المترددين على مقاهي الانترنت وغرف الألعاب الكورية هم من فئة الشباب. غير أن المختلف في كوريا الجنوبية هو ارتباط هذه الحقيقة بثلاث ظواهر جديرة بالتمعن والدراسة.
الظاهرة الأولى هي أن المصنعين والمستثمرين والعاملين في هذا القطاع لا يكتفون بالترويج لخدماتهم وبضائعهم بأساليب تقليدية، ولا يحصرون هدفهم في تحقيق الأرباح المادية كيفما كان. فهم مثلاً في سبيل توسعة أنشطتهم يتعاونون مع إدارات المدارس لنشر ثقافة وأنظمة تكنولوجيا المعرفة والمعلوماتية، وذلك من خلال تمويلهم لإقامة الصفوف الانترنتية وتجهيزها بأحدث الوسائط والألعاب الالكترونية، وقيامهم بحملات في أوساط الشبيبة من أجل تشجيعهم على استعمال تلك الوسائط ومعرفة دقائقها وخصائصها. هذا ناهيك عن حملاتهم التوعوية الخاصة بمحاربة المواقع الإباحية وعمليات القرصنة الالكترونية، والتي تثبت إيلاءهم سلامة وحماية النشء الجديد اهتماماً لا يقل عن اهتمامهم بتحقيق الأرباح السريعة.
الظاهرة الثانية هي الدور الرائد للدولة في تشجيع الأطفال والشبيبة من طلبة المدارس والمعاهد على استخدام الانترنت في الحصول على المعرفة من جهات ومصادر متعددة، وعلى استخدام برامج الألعاب الالكترونية في تنمية مهارات التفكير والتخطيط والتحكم واتخاذ القرار السليم. حيث تقوم الدولة سنوياً بتخصيص ميزانيات تقدر بعشرات الملايين من الدولارات للإنفاق على نشر الثقافة الانترنتية في المدارس وربط الأخيرة بشبكات المعلوماتية، وعلى دعم الشركات المصنعة للألعاب والبرمجيات الالكترونية من أجل تطوير نواتجها وتحسينها وتنويعها. وهذا كله بطبيعة الحال ليس سوى جزء مكمل لسياسات بدأتها الدولة في السبعينيات يوم أن قررت بناء "المدن العلمية" في مختلف أقاليم البلاد لتكون حلقة وصل بين مراكز الأبحاث والجامعات والشركات الصناعية الكبرى وأوعية تصب فيها جهود هذه المؤسسات في ميادين الابتكار العلمي والصناعي والتكنولوجي.
أما الظاهرة الثالثة التي يمكن القول إنها حصيلة للظاهرتين السابقتين، فهي أن قيادة ثورة المعرفة التكنولوجية في البلاد، صارت اليوم في يد الشباب من أولئك الذين تشبعوا بثقافة الإنترنت خلال السنوات الماضية. فهؤلاء رفضوا أن يكونوا فقط مجرد مستخدمين تقليديين لأدوات الثورة المعلوماتية كما في البلاد النامية، وإنما عملوا على الإبحار عميقاً في تكنولوجياتها وأسرارها ووظائفها حتى صاروا عناصر لا غنى عنها في تسيير أنشطة كبريات الشركات والمؤسسات الاقتصادية والمالية، فضلا عن إدارتهم للعديد من الأنشطة الخاصة بهم. وتتضح الصورة بطريقة أفضل إذا ما علمنا أن جزءاً كبيراً ومتزايداً من عمليات البيع والشراء اليومية في البلاد صارت تتم عبر الشبكة العنكبوتية لأنها تضمن السرعة وتخطي الحواجز الجغرافية وعمولات أقل بنحو 45 بالمئة عما يدفع في حالات عقد الصفقات التجارية بالوسائل الأخرى.
ولعل أحد أبرز الأمثلة على الدور القيادي للشباب في ثورة المعلوماتية هو موقع "نيكست هيومان نيت وورك" على الشبكة العنكبوتية والذي يعادل موقع "غوغل" في شهرته وتأثيره، على الرغم من أن القيمة الإجمالية لأسهم المؤسسة التي تملكه لا يتجاوز أربعة مليارات دولار، وهو ما يوازي 3 بالمئة من قيمة أسهم "غوغل" فقط. ففي هذه المؤسسة التي يتوقع أن تصل مبيعاتها إلى نصف مليار دولار في العام الجاري، يعمل نحو ألف شاب كوري مؤهل على مدار الساعة من أجل تقديم خدمات أكثر تميزاً وأحدث ابتكاراً في مجال المعلومات والإعلانات والألعاب الالكترونية والتسلية في سوق يشهد منافسة حامية الوطيس.
ومن الأمثلة الأخرى، أن الشباب ممن تقل أعمارهم عن الثلاثين هم وحدهم الذين يقودون ويديرون اليوم كافة أنشطة شركات الاتصالات الخليوية الخمس العاملة في البلاد و