خرج آلاف العميان في بلغراد لإلقاء النظرة الأخيرة على ميلوسوفيتش، الصربي الذي مات في زنزانة محكمة جرائم الحرب. والمثير للحنق أن نساءً مسنّات كنّ يبكين بحرقة، فإن كانت الشعارات القومية تغرّر بالشباب، فما الذي غرّر بالعجائز اللاتي فقدن أولادهن وأزواجهن في حروب غبية؟ وألا يعرف أولئك ميلوسوفيتش وأفعاله، ألم يُجرِ أنهاراً من الدماء في البلقان؟ ألم يكن مهندس التطهير العرقي في يوغوسلافيا السابقة؟ ألم تتفتت دولتهم على يديه إلى دويلات؟ بلى يعرفونه كما يعرفون آباءهم، لكنها الحميّة، حميّة الجاهلية.
والحميّة أو التعصّب أولى الخطايا، وأبو المتعصبين أجمعين هو الشيطان الذي افتخر على آدم بخلقه وتعصّب عليه بأصله، والشيطان "إمام الكافرين" رغم أنه عبدالله آلاف السنين ولم ينكر ألوهيته حتى وهو يتمرّد عليه. والعصبية لغةً: أنْ يدعو الرجلَ إلى نُصرة عَصَبَتِهِ والتألُّب معهم على مَن يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين. وإنك لا تجد، إلا من رحم ربي، يتكلم بموضوعية وإنصاف عما لحق بالإنسان، مطلق إنسان، على يد إنسان آخر، إذا كان متصلاً بالأخير بوشيجة من الوشائج، كدين أو مذهب أو عِرق، كأن رابطة الإنسانية، التي تضم الجميع، لا تكفي ليكون المرء منصفاً مع الآخرين.
ليس التعصّب ماركة صربية، بل أكثر الناس يعميهم التعصّب عن رؤية الحق، فتعمى قلوبهم وإن كانت عيونهم مبصرة و6/6. فتجد مثلاً مسلماً، لا يعتبر أفعال إرهابيي "القاعدة" المسلمين بحق الأبرياء من غير المسلمين أمراً ذا بال. وتسمع عربياً يصف جرائم صدام بحق الأكراد بأنها دفاع عن الوطن. وتصغي إلى سُني يعدد فضائع صدام، فيطمئن له قلبك وعقلك، لكن المنصف ينحرف 180 درجة حين يأتي على ذكر جرائم صدام بحق الشيعة، فيقول إنه كان "مؤدباً جيداً للشيعة". وتجد شيعياً، لا تتحرك فيه شعرة عندما يسمع عن اضطهاد السُنة في إيران على يد الملالي، هذا إن كان يصدق أخبار الاضطهاد أصلاً، فبعض أنواع العمى يصيب القلب والعين معاً. وإذا سألته عن عدم وجود مسجد للسنة في طهران أو شيراز التي يقطنهما ملايين السنة، فيسأل: وهل أحصيت عددهم؟ وتراه متألماً لاضطهاد الفلسطينيين لكنه يغمض عينيه عن ثقب أجساد السنة بالـ"دريل" في أقبية وزارة الداخلية العراقية، فالفاعلون في الأولى "يهود ملعونون"، أما في الثانية، فـ"شيعة معذورون"، وإن كان لابد له من لعن أحد، فلعنة الله على الاحتلال الأميركي.
والآن يسأل إرهابيو العراق: أنت شيعي؟ خذ هذه القنبلة إذن. ويسأل ميليشيات الشيعة وأجهزتهم الحكومية: أنت سني؟ تشرّفنا، نحن فرقة الموت. وليس أمام المرء هنا إلا أن يعلن أنه "زنديق" ليفلت بجلده، وقد حصل مثل هذا في العهد الأموي، فيحكى أنه لمّا بلغ التعصب للقحطانيين والعدنانيين مبلغه، انطلق رجل إلى بعض الأنحاء، فاستوقفته جماعة تسائله عن نسبته: أقحطاني أم عدناني؟ فخاف الرجل إذا هو قال عدناني وكانت الجماعة قحطانية أن يقتلوه، والعكس صحيح، فتحيّل للخروج من حرجه "بأنه مِنْ سِفاحٍ".