من ينظر اليوم إلى الوضع الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط ويحاول استشراف المستقبل على مدى العشر سنوات المقبلة، سيجده على مشارف مخاض متعثر لـ"بانوراما درامية" قد تختلف جذرياً عن طبيعة وأبعاد الخريطة الحالية للمنطقة سواء من حيث التكوين الجغرافي أم التركيبة العرقية والطائفية، ومن المدهش والغريب في آن واحد أن التحولات والتغييرات تحدث أمام أعيننا، ولكننا نتعامى أو بالأحرى نتظاهر بأن الأمور تسير على نحو ما نريد، رغم أننا لا نفعل ما يحقق لنا ذلك، بل وفي أحيان كثيرة نفعل ما يعرقل توجهنا نحو مستقبل أفضل.
صناع الخريطة الجديدة للشرق الأوسط معروفون، وأهدافهم واضحة، وتوجهاتهم نحو تحقيقها أكثر وضوحاً، ولكننا كعادتنا دائماً ننتظر الفعل ثم نكتفي بحق المشاهدة ثم نشعر بالمعاناة ودفع الاستحقاقات.
منذ وقت قريب كان التاريخ تصنعه شخصيات مهمة ومعروفة عربية أوعالمية تحملت عبء صياغة خريطة تفاعلات الشرق الأوسط على مدى عقود من الزمن؛ وكان لها الفضل، سواء الحسن أم السيئ، في تشكيله بصورته المعاصرة بكل تركيبته المعقدة من تقدم أو تخلف، وتطور وتراجع، وبناء وهدم، ونصر ونكبات، وكلها ثنائيات وضعت العرب اليوم في مأزق تاريخي جعلها "ملطشة" للجميع.
لذلك فقد اندثرت هذه الشخصيات أو تلاشت ليظهر على مسرح الأحداث بعض اللاعبين غير المرئيين للعيان ولكن أفعالهم وسلوكياتهم تدل عليهم، يمارسون أدوارهم على مسرح منطقة الشرق الأوسط من خلال صراع عنيف رهيب، كل منهم يبحث عن مصالحه الخاصة وأطماعه وطموحاته الذاتية على حساب الآخرين، وقد يتحالف بعضهم ضد بعض، أو تخدم سلوكيات طرف مصالح آخر، إلا أنه في نهاية المطاف سيولد شرق أوسط جديد.
تتقاسم مسرح الشرق الأوسط أربع قوى هي: "التطرف والإرهاب والبلطجة بشقيها الإقليمي والعالمي والتخاذل العربي"، ونتاج صراع هذه القوى سيحسم مسألة الخريطة الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط.
التطرف في المنطقة تقوم به دول وتنظيمات، كل منها تسعى إلى فرض سطوتها وهيمنتها، حيث توجد دول أصابتها لعنة التطرف في قيادات تسعى جاهدة إلى استعادة مجد إمبراطوريتها العرقية القديمة وترى في نفسها قوة عظمى إقليمية تستحق ذلك، في الوقت الذي تعاني فيه انفصاماً واضحاً بين قدراتها وطموحاتها، وبين ضعفها وتفككها الداخلي وأقوالها وتصريحاتها النارية، وبين معاناتها وجهادها لتوفير لقمة العيش لشعبها وسعيها لامتلاك أقوى أسلحة الدمار الشامل، وتتلاعب بمستقبل شعبها في سبيل طموحات زائفة.
أما التطرف الديني الزاحف إلى السلطة والطامع في الحكم فقد غيّر من طرقه وأصبح له "نيولوك"، إلا أن ثوابته ومرتكزاته لم ولن تتغير، فقد استثمر معاناة الشعوب المطحونة ومشكلاتهم ولعب على نغمة "الحل الديني"، واتخذ وجهاً "علمانياً خاصاً" لا يتعرض للفصل بين الدين والدولة، ولكنه ينادي بالفصل بين "رجال الدين وسلطة الحكم"، ورغم الفرق الكبير بين الاثنين، فإن البسطاء والمطحونين لا يعرفون ذلك الفرق وينطلي عليهم الشعار الزائف، وهو أمر يمكن أن نلمسه بسهولة في دول شرق أوسطية عدة وصل فيها المتطرفون إلى بعض كراسي السلطة.
ولكن الجديد في أحوال هؤلاء المتطرفين سعيهم إلى إثارة الفتنة الطائفية ضاربين بعرض الحائط الوحدة الوطنية واحتمالات التورط في حرب أهلية قد تقود في النهاية إلى تقسيم دولهم إلى دويلات صغيرة، وليس ما يحدث في العراق والبحرين ومصر وإيران ببعيد عن محاولات بث الفتنة، وإن كان العراق أقربهم إلى السقوط في براثن الحرب الأهلية والتعرض للتقسيم.
لقد سبق ونجح المتطرفون في مناطق أخرى من العالم في الوصول إلى سدة الحكم بعد أن جرى تقسيم دولهم إلى دويلات مختلفة الطوائف والأعراق، سواء في أوروبا أو أفريقيا، بعد أن وجدوا الفرصة فيمن يساندهم ويشد من أزرهم ويمدهم بالسلاح والمال للوصول إلى السلطة، كما أن التقسيم مرض إذا أصاب شعب دولة انتشر بسرعة إلى دول أخرى ذات تركيبة طائفية أو عرقية متصارعة، ربما نتيجة لشعورها بالظلم أو الاضطهاد، وأحياناً يكون بهدف فرض السطوة أو استعادة مجد تاريخي قديم أو حديث.
لذا فاحتمال قيام دويلات جديدة في منطقة الشرق الأوسط على أطلال دول قائمة أمر وارد ولا يقبل الشك، فضلاً عن تزايد احتمالات اختفاء بعض الدول عن خريطة المنطقة، كما حدث من قبل مع دولة فلسطين.
أما اللاعب الآخر في صنع الشرق الأوسط الجديد، فهو الإرهاب بشكله المتطور، حيث يستغل الفوارق الاجتماعية والطائفية والعرقية ويثير الفتن بين فئات الشعب وأطيافه، فتارة يرتدي عمامة الإسلام ليهاجم المسلمين تحت زعم تعاونهم مع الأعداء، وتارة يرتدي عباءة قوات الأمن والشرطة المحلية ليهاجم عناصر التركيبة السكانية لإثارة الرعب من "حراس" رجال السلطة، وتارة أخرى يتحالف مع الأعداء كجزء من عملية المصالح المتبادلة والمنفعة غير المباشرة.
ونظراً إلى أن الإرهاب يفتقد الدين والوطن ومحل الإقامة، فهو يبيع نفسه لمن يدفع أكثر دون اعتبار لمبادئ أو قيم وأعراف، لذلك يتم استثماره لصالح قوى أخرى