في الوقت الذي يقود فيه الرئيس بوش كل هذه الحملة القوية الرامية إلى منع إيران وحرمانها من تطوير الأسلحة النووية, نراه يحث أعضاء الكونجرس حثاً ويستعجلهم للمصادقة على تمويل ترسانة جديدة من الأسلحة النووية, المصممة خصيصاً لدك المؤسسات والمنشآت العسكرية المخبأة تحت سطح الأرض. وعلى الرغم من أن القنابل الخارقة للحصون الأرضية لا تزال في مرحلة التصميم والتخطيط لا أكثر, إلا أنها تعطي النظام الإيراني فرصة ثمينة لا تعوض لاتهام بوش بما يمكن وصفه بالنفاق النووي. ولا شيء يجعل من هذا الاتهام أمراً مستبعداً في ضوء التراشق اللفظي والحرب الكلامية الدائرة بين واشنطن وطهران, في إطار الأزمة النووية الإيرانية الماثلة. وكان "ديفيد إل. هوبسون" عضو مجلس الشيوخ الأميركي, وهو "جمهوري" "محافظ" من ولاية أوهايو, هو من انبرى أكثر من غيره, لمعارضة تمويل القنابل الخارقة للحصون الأرضية, وحث المجلس على عدم الموافقة على إنفاق سنت واحد عليها. وقد استجاب مجلس "الشيوخ" لاعتراضه بالفعل, فامتنع عن المصادقة على تمويلها. وأكثر ما أثار قلق "هوبسون" بشأن تلك القنابل على وجه التحديد, قوله إن في إمكان معتوه ما, استخدامها على نحو غير شرعي وغير مصرح به.
وعلى نقيض هذا الموقف تماماً, كان دونالد رامسفيلد وزير الدفاع, قد أكد للجنة فرعية من لجان مجلس "الشيوخ" في شهر أبريل من العام الماضي, أن نحو 70 دولة من دول العالم, تمارس نشاطاً سرياً عسكرياً تحت سطح الأرض, في الوقت الذي لم تطور فيه أميركا من الأسلحة والقدرات, ما يمكنها من التعامل مع مثل هذه الأنشطة. وفي سبيل تبرير طلبه ذاك اقترح تطوير قنابل نووية مخصصة لذلك الغرض, دون الحاجة إلى تطوير نوع آخر من السلاح النووي القذر والأكبر حجماً. لكن في ذلك الوقت الذي تقدم فيه رامسفيلد بإفاداته المذكورة أعلاه للجنة الفرعية لمجلس "الشيوخ", فإن المرجح أن يكون قد اطلع على دراسة نشرتها "الأكاديمية القومية", كانت قد ذهبت إلى تقدير عدد القتلى المحتملين, في حال استخدام أصغر أنواع الأسلحة النووية الخارقة للحصون الأرضية, في منطقة حضرية مأهولة بالسكان, بنحو مليون نسمة!
وما هذا السعي الحثيث نحو تطوير الأسلحة النووية الخارقة للحصون الأرضية, مصحوباً بإفادات ومطالبات رامسفيلد الواردة أعلاه, إلا تأكيد على التحول الذي أحدثته إدارة بوش على السياسات والاستراتيجيات النووية, علماً بأنه تحول يتجه بتاريخ هذه السياسات, من استخدام الأسلحة النووية كمجرد وسيلة للردع, إلى ترسانة ترى الإدارة إمكانية استخدامها, ضمن نهج الضربات الاحترازية والاستباقية الذي تنتهجه. ولذلك فليس غريباً أن تضيف "القيادة الاستراتيجية الأميركية" لخططها, مهام عسكرية جديدة تتضمن احتمال استخدام الأسلحة النووية في الحروب. يجدر بالذكر أن هذا التضمين يقتصر في الوقت الحالي على النص على استخدام الأسلحة النووية, كوسيلة استباقية احترازية, تهدف إلى منع الأعداء من تطوير أسلحة الدمار الشامل أو الحصول عليها بأية طريقة ما.
هذا وكانت مسودة وزارة الدفاع التي حملت عنوان "عقيدة العمليات العسكرية الموحدة" قد وصفت هذه العمليات وفصلتها تفصيلاً دقيقاً. وكان "هانس كريستنسن" هو الذي اكتشفها عند تصفحه للموقع الإلكتروني الخاص بوزارة الدفاع, في شهر سبتمبر من العام الماضي. وما أن بدأ "كريستنسن" بتبادل ما توصل إليه مع شتى وسائل الإعلام, حتى اختفت المسودة تماماً من الموقع. لكن مع ذلك, تظل خطة "القيادة الاستراتيجية الأميركية" نافذة وسارية المفعول حتى الآن.
ورداً على نجاح "هوبسون" في حملته المعارضة لتطوير الأسلحة الخارقة للحصون الأرضية, قال رامسفيلد للسيناتور "الجمهوري", ربما تكون قد فزت بالجولة في هذا العام -2005- غير أننا سنعاود الكرة مرة أخرى في العام المقبل, أي العام الحالي 2006. وفي غضون ذلك كان الكونجرس قد صادق على مشروع قرار ينص على ضرورة اعتماد أي من الأسلحة الناسفة الخارقة لسطح الأرض, على المتفجرات التقليدية التي تفي بهذا الغرض عسكرياً.
وعلى خلفية كل هذا الإلحاح من جانب الإدارة على تطوير الأسلحة النووية الخارقة لسطح الأرض, يذكر أن وزارة الدفاع نفسها, كانت قد بذلت جهداً مقدراً في العام قبل الماضي 2004, في الاتجاه الذي أقره الكونجرس, اعتماداً على المتفجرات والأسلحة التقليدية المؤدية للغرض. فقد تعاقدت الوزارة مع شركة "بوينغ" على تصميم واختبار قنبلة تقليدية ضخمة, أطلق عليها اسم (Massive Ordnance Penetrator). والجدير بالذكر أن هذه القنبلة هي الأضخم على الإطلاق في ترسانة الأسلحة التقليدية الأميركية, ومن المقدر لها أن تدمر المباني المؤلفة من عدة طوابق, بما فيها المزودة بالحصون والأنفاق المنيعة. ولما كانت لأميركا كل هذه القدرة في توظيف الأسلحة التقليدية واستخدامها في تنفيذ أصعب عملياتها ومهامها العسكرية, فلمَ كل هذا التمسك بتطوير أسلحة وترسانة نووية جديدة؟
والإجابة الوحيدة على هذا السؤال, هي أن الحرب الباردة قد انتهت