لم يبق سوى أيام معدودة على انتخابات "الكنيست"، المقرر إجراؤها يوم 28 مارس 2006، ومع ذلك تبدو الأجواء هادئة وباردة بشكل يدعو إلى الدهشة، حيث جرت العادة في الانتخابات الماضية أن تشهد الأسابيع والشهور السابقة على يوم الاقتراع انشغال مختلف قطاعات الكيان الصهيوني بقضية الانتخابات مع تصاعد المنافسة بين الأحزاب المختلفة وتباين التوقعات صعوداً وهبوطاً، بل وكانت بعض العواصم العربية ترجئ اتخاذ بعض القرارات الحاسمة في انتظار معرفة نتائج انتخابات "الكنيست"، وبالتالي معرفة من سيتربع على مقعد رئيس الوزراء، فضلاً عن المفاضلة بين مرشح وآخر وتعليق الآمال على فوز هذا الحزب أو ذاك، وكأن مصير الشعوب والبلدان العربية معلق بيد الناخب الإسرائيلي!
إلا أن المشهد يبدو مغايراً إلى حد كبير هذه المرة. فعلى مدى الشهور الثلاثة الماضية، كان الشغل الشاغل للمؤسسة الحاكمة وللرأي العام في الكيان الصهيوني على حد سواء هو الانتخابات الفلسطينية التي أسفرت عن فوز "حركة المقاومة الإسلامية" (حماس) بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني، ومن ثم التأهل لتشكيل الحكومة الفلسطينية القادمة، بكل ما ينطوي عليه هذا الفوز من دلالات تتعلق بتمسك الشعب الفلسطيني بمنهج المقاومة وإصراره على رفض الخضوع لمنطق الاحتلال ومشيئته. والملاحظ أن هذا الاهتمام بالشأن الفلسطيني فاق بكثير الاهتمام بانتخابات "الكنيست"، بل وفرض نفسه على برامج الأحزاب الصهيونية وحملاتها الانتخابية وعلى توجهات الناخبين في الوقت نفسه، بحيث أصبح الموقف من حركة "حماس" ومن الحكومة التي ستشكلها إحدى القضايا الجوهرية في المزايدات بين الأحزاب الصهيونية وفيما تقدمه للناخبين من وعود.
ومن الظواهر الأخرى الجديرة بالاهتمام في الانتخابات الحالية تزايد عدد من يُطلق عليهم اسم "الناخبين المتأرجحين"، وهم أولئك الذين لا يحسمون أمرهم في اختيار المرشحين إلا قبيل الاقتراع بفترة وجيزة، قد تصل إلى ساعات وربما دقائق معدودة، وذلك نظراً لافتقارهم إلى الخبرة السياسية أو عدم إدراكهم لأهمية التصويت أو عدم قدرتهم على التمييز بين برامج المتنافسين، أو عدم اكتراثهم بالانتخابات برمتها. ويُعد وجود كتلة من "الناخبين المتأرجحين" إحدى الظواهر المألوفة في جميع انتخابات "الكنيست"، بل وفي أية انتخابات في أي مكان في العالم تقريباً، مما يجعل الأحزاب والشخصيات المتنافسة تتسابق إلى كسب تأييدهم علها تعدل من وضعها الانتخابي. إلا أن اتساع حجم هؤلاء "الناخبين المتأرجحين" يربك حسابات القوى التي تخوض الانتخابات ويجعل مصيرها رهناً بعوامل غير مضمونة لا يمكن التحكم في مسارها أو التكهن بنتائجها.
وهذا بالتحديد هو أشد ما يقلق حزب "كاديما"، الذي أسسه شارون في نهاية العام الماضي بعد انشقاقه عن حزب "الليكود" وخلفه في قيادته إيهود أولمرت، الذي يبدو الأوفر حظاً في أن يخلفه أيضاً في رئاسة الوزراء. إذ يرى قادة الحزب أن ما يلمسونه من تأييد في جولاتهم الانتخابية وفي استطلاعات الرأي يختلف تماماً عما يمكن أن يتحقق فعلاً يوم الاقتراع، وأن أولئك "المتأرجحين" قد يطيحون بآمال الحزب في تحقيق أغلبية مريحة توفر عليهم عناء الدخول في تحالفات هشة والرضوخ لمطالب الأحزاب الصغرى. ويفصح زعيم "الليكود" بنيامين نتانياهو عن هذه المخاوف بشكل أوضح مؤكداً أنه لم يشهد من قبل مثل هذه الظاهرة "فكلما اقترب موعد الانتخابات زاد عدد المتأرجحين الذين لم يتحدد موقفهم" (صحيفة يديعوت أحرونوت، 16 مارس 2006).
ومن جهة أخرى يأمل حزب "العمل" في تحسين مكانته على الساحة السياسية في ظل قيادة عمير بيريتس وتركيز برنامجه على القضايا الاجتماعية. وبرغم التفاؤل من إمكان حصول الحزب على عدد من مقاعد "الكنيست" يفوق ما حصل عليه في الانتخابات السابقة، فإن قادة الحزب لا يخفون قلقهم من جمهور "المتأرجحين" لأن خسارة أصواتهم قد تؤدي إلى مزيد من "تقزم" الحزب، وخاصةً مع انتقال عدد من أبرز رموزه إلى صفوف حزب "كاديما".
ويعبر المعلق السياسي يورام كانيوك عن مشاعر قطاع لا يُستهان به من أولئك المتأرجحين، في مقال ساخر بعنوان "من الخطأ أخذ مرشح الليكود على محمل الجد" (صحيفة يديعوت أحرونوت، 16 مارس 2006). فهو يبدأ بالسخرية من المواقف "النارية" لبنيامين نتانياهو وهجومه المستمر على أولمرت بدعوى أن سياسته ستؤدي إلى تقسيم القدس وتقديم مزيد من التنازلات للفلسطينيين. ويرى الكاتب أن نتانياهو:
"متمسك ببث الذعر في قلوبنا... لقد فاز مرة في الانتخابات بتصريحات من هذا النوع، وهو يدعي أنه استأصل الإرهاب وأنقذ الاقتصاد، وهو الأمر الذي لم يلحظه أي أحد. وإذا لم يفعل السياسيون الآخرون أي شيء سوى تجاهل تهديدات نتانياهو، فسوف تكون الجماهير كلها خلفهم".
ورغم أن اهتمام الكاتب ينصب على تصوير حالة الإحباط التي تسود أوساط الرأي العام من مواقف نتانياهو بوجه خاص، فإن الأمر ينطبق بالمثل على مواقف جميع الأحزاب الصهيونية، ولاسيما من قضية القدس. إذ