بري... لحظة الحوار الضروري من مسافات مختلفة


واجهت جولات الحوار الوطني اللبناني منذ انطلاقه قبل ثلاثة أسابيع، لحظات من التأزم العصيب والخلافات العاصفة، وحملت أيضا، في لحظات أخرى، عدداً من موجبات التفاؤل بقدرة اللبنانيين على الوصول بخلافاتهم إلى تفاهم يجترح الحلول ويحقق الرضا لأطرافهم على اختلافها. وينبع احتمال الفشل الذي تراءى مرارا في أجواء المؤتمر خلال مراحلها السابقة، من خطورة القضايا الثلاث التي يتمحور حولها، وهي قرار مجلس الأمن رقم 1559 (والذي ينص على انتخاب رئيس للبلاد من دون تدخل خارجي، وعلى نزع سلاح المقاومة)، والعلاقات بين لبنان وسوريا، وأخيرا التحقيق في اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. وفي الجولة الثالثة التي انتهت يوم الأربعاء الماضي، خابت توقعات متشائمة باحتمال الوصول إلى نقطة الافتراق المطلق حول البندين الأصعب على جدول أعمال الحوار، وهما رئاسة الجمهورية وسلاح المقاومة، إذ تحققت اختراقات مهمة قد تفضي إلى توافق خلال الجولة القادمة يوم الاثنين المقبل. ويتضح من سير الحوار اللبناني وجلساته السابقة، أن رئاسة نبيه بري لأعماله، شكلت عامل حماية ضد فشل المؤتمر بسبب الخلافات المستحكمة بين أطرافه.


 فالحوار يتم تنظيمه بدعوة من بري الذي قدم في شهر فبراير الماضي مبادرة دعا فيها الأطراف اللبنانية المتنازعة للجلوس على مائدة الحوار المستديرة، ومناقشة القضايا التي تختلف عليها القوى السياسية وتكاد تفجر الوضع اللبناني برمته. وشكل لجنة للمتابعة والتنظيم، أوفدها إلى قادة التكتلات والقوى السياسية والدينية المؤثرة، لتبدأ جلسات المؤتمر يوم الثاني من مارس الجاري في مبنى البرلمان، بحضور 14 شخصية لبنانية بارزة، مسلمة ومسيحية، مناهضة أو موالية لدمشق، تضم نوابا ورؤساء أحزاب وكتل برلمانية.


وبذلك يكون مؤتمر الحوار الحالي برئاسة بري، أول مناسبة بهذا الحجم منذ ثلاثين عاما تجتمع فيها القيادات السياسية اللبنانية دون مشاركة أو رعاية خارجية. فمن هو نبيه بري؟ وما هي الاعتبارات التي أهلته لجمع اللبنانيين من مؤتمر الحوار؟ لاشك أن لبري مواقف سياسية على تماس مباشر مع قضايا مؤتمر الحوار؛ ففيما يتعلق برئاسة الجمهورية كان رئيس مجلس النواب نبيه بري أبرز الذين أيدوا تصويت البرلمان على التمديد للرئيس إيميل لحود عام 2004، تجسيدا لالتقاء المصالح مع سوريا و"حزب الله" في مسألة بقاء لحود، ولم تأتِ مرحلة ما بعد التمديد ثم الخروج السوري من لبنان، بأي تغير حقيقي في موقف بري المؤيد لوجود علاقات "نوعية" بين بيروت ودمشق، ومن ثم لا غرو أن يحرص على ما تبقى من "العهد السوري" ألا وهو رئاسة لحود! وتعود الصلات القوية بين بري ودمشق إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، حينما كان قياديا بارزا في حركة "أمل" وبعد أن أصبح قائدها الأعلى. وكان نبيه بري المولود عام 1938 في مدينة فريتاون عاصمة سيراليون، لوالده الحاج مصطفى بري أحد وجهاء بلدة تبنين الجنوبية الشيعية، أحد القيادات العروبية الشابة والنشطة في الوسط الجنوبي.


وعرف منذ فترة الشباب بحماسه للقضايا الوطنية والعربية، وقد ترأس الاتحاد الوطني للطلبة اللبنانيين أثناء دراسته في كلية الحقوق بالجامعة اللبنانية، وبعد أن أكمل دراسته العليا في جامعة السوربون، أصبح محاميا لامعا، وكان له نشاطه السياسي وحضوره خلال مناسبات عدة في دمشق. وفي أواسط الستينيات تعرف بري إلى موسى الصدر، وأصبح أحد المقربين منه وأبرز مساعديه، وعمل معه على إنشاء "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى"، ثم انتسب إلى "حركة المحرومين- أفواج المقاومة اللبنانية" (أمل) التي أسسها الصدر عام 1973، وأنشآ معا ذراعها العسكري عام 1975.


لكن بعد اختفاء الصدر عام 1978، لم يصمد خليفته المنتخب على رأس الحركة حسين الحسيني أكثر من عام واحد، إذ سوف يحل محله بري الذي عرفت معه الحركة تحولا جذريا في بنيتها التنظيمية وتوجهاتها الأيديولوجية وتحالفاتها السياسية، كما عرف التلاحم الفلسطيني- الشيعي شروخات عميقة ودامية؛ إذ اختار بري تحالفا لا حدود له مع سوريا التي كانت تخوض صراعا على النفوذ مع منظمة ياسر عرفات في لبنان، مما أسفر عن مآسٍ ومعاناة قاسية للفلسطينيين في الجنوب اللبناني.


 أما بعد نهاية الحرب الأهلية وتطبيق اتفاق الطائف، فقد أصبح النائب نبيه بري -وبدعم قوي من سوريا- رئيسا للبرلمان عام 1992، ثم ترأسه في دورة أخرى بداية من عام 1996، وبعدها في عام 2000، ثم انتخب رئيسا له في دورة رابعة أواخر العام الماضي.


 أما فيما يخص سلاح المقاومة، فمن الواضح أن حركة "أمل" بقيادة بري، معنية بما سينتهي إليه الحوار الوطني في تلك المسألة على الأخص، ليس فقط لأن "أمل" تملك هي كذلك تنظيمها المسلح (نحو 1000 رجل)، وإنما أيضا لكونها الشريك الأساسي والأول لـ"حزب الله" الذي استهدفه القرار 1559. فهما يمثلان أكبر