ربما يجدر بنا أن نضع تحت العنوان الرئيسي لاستراتيجية الأمن القومي الجديدة التي أعلنت عنها مؤخراً إدارة الرئيس جورج بوش عنواناً آخر: "السخرية من إيران". فبعد ثلاث سنوات من غزو العراق واختراع عبارة "محور الشر"، تعمل الإدارة الأميركية حالياً على إبراز التهديد الذي تشكله إيران -التي أصبحت حكومتها أكثر قوة بفضل غزو العراق. ولذلك يمكن القول إن الأمر يتعلق بمأساة وليس باستراتيجية، وهي بذلك تعكس المقاربة التي تنتهجها إدارة بوش، والتي تقوم على "مبادئ الصراع بين النور والظلام".
قد يكون من المناسب أحياناً بالنسبة لزعماء الدول الحديث عن عالم مقسم إلى "خير" و"شر" خدمة لأغراض خطابية وبلاغية. ولكن الأمر مختلف حين تبنى سياسات أقوى دولة في العالم على أساس ذلك الخيال، حيث أدت ميول الإدارة الأميركية إلى وضع من تعتبرهم خصومها في كفة واحدة لا تراعي الاختلافات والتفاصيل إلى سلسلة من العواقب غير المقصودة.
لقد تصرف الرئيس بوش على مدى سنوات كما لو أن تنظيم "القاعدة" وأتباع صدام حسين وملالي إيران جزء من نفس المشكلة. والحال أنه في الثمانينيات خاض العراق في عهد صدام حرباً ضروساً ضد إيران، وفي التسعينيات قتل أنصار تنظيم "القاعدة" مجموعة من الدبلوماسيين الإيرانيين، وعلى مدى سنوات كان أسامة بن لادن يستهزئ من صدام الذي اضطهد الزعماء الدينيين سواء كانوا سنة أم شيعة. وعلاوة على ذلك، فعندما استهدفت "القاعدة" الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر 2001، نددت إيران بالهجمات وشاركت لاحقاً بفعالية في المحادثات حول أفغانستان. كما أن زعماء العراق الجديد، الذين اختيروا في انتخابات وصفها جورج بوش بـ"لحظة سحرية في تاريخ الحرية"، هم أصدقاء لإيران. وعندما غزت الولايات المتحدة العراق، قد يكون بوش قصد من وراء ذلك المساهمة في انتصار الخير على الشر.
الحقيقة أن الإدارة الأميركية منقسمة اليوم بين أولئك الذين يستوعبون الطابع المعقد والمتشعب للمنطقة والآخرين الذين لا يستوعبون هذا الطابع. فمن جهة يوجد فريق المؤدلجين من أمثال ديك تشيني نائب الرئيس، الذي يبدو أنه ينظر إلى العراق كسابقة قد تفيد في التعاطي مع إيران. وفي غضون ذلك، يدرك المسؤولون الموجودون على الخطوط الأولى في العراق أنهم لن يفلحوا في جمع الأطراف بهدف تشكيل حكومة قادرة على القيام بمهامها في ذلك البلد من دون المباركة الضمنية لطهران، وهو ما يفسر الإعلان المتأخر عن اعتزام إجراء حوار أميركي- إيراني بخصوص العراق، حوار إذا ما تم بشكل جيد فمما لاشك فيه أنه سيؤدي إلى إحراز تقدم على صعيد موضوعات أخرى.
وبالرغم مما عرف عن هذه الإدارة من أنها لا تصغي إلى النصائح ولا تعمل بها، أود مع ذلك اقتراح ثلاثة أمور، أولها أن نستوعب أنه بالرغم من أننا نرغب جميعا في "إنهاء الظلم والطغيان في العالم"، فإن ذلك لا يعدو أن يكون ضرباً من ضروب الخيال إذا لم نعمل على حل المشاكل المستعصية. إن العراق يتجه اليوم أكثر فأكثر نحو حرب عصابات يمكن في رأيي حلها عبر أحد أمرين، إما أن يفرض طرف واحد إرادته، أو أن ينال جميع اللاعبين الشرعيين جزءاً من السلطة، ذلك أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة اليوم على التحكم في زمام الأحداث بالعراق، ولكن يمكنها أن تكون مفيدة كحكم.
ثانياً، على الإدارة الأميركية أن تتخلى عن أي مخطط يهدف إلى تغيير النظام في إيران، ليس لأنه لا ينبغي تغيير النظام بل لأن دعم الولايات المتحدة لهذا الهدف لن يؤدي إلا إلى تقليل فرص تحقيقه. لذلك ففي بيئتنا السياسية الغريبة اليوم، لا شيء يقوي الحكومات الراديكالية أكثر من العداء المباشر الذي تعلنه واشنطن إزاءها. ثم إنه من المنطقي افتراض أن إيران لن ترغب في إبداء أي تعاون بخصوص موضوعي العراق وبرنامجها النووي إذا ما استمر تهديدها باستعمال القوة. أما بالنسبة لرئيس إيران الجديد المعادي للسامية، فسيتكفل منافسوه في الداخل باختفائه ما لم يدعمه أعداؤه في الخارج بارتكاب حماقة ما.
ثالثاً، على الإدارة الأميركية فهم الشرق الأوسط والخليج العربي، فـ"مسيرة الحرية" التي يقودها بوش ليست الأمر الأهم في العالم الإسلامي حيث المسلمون الشيعة باتوا يمسكون اليوم بالسلطة فجأة منذ أكثر 1000 سنة، وهي ليست الأمر الأهم في لبنان حيث تعمل إيران على ملء الفراغ الذي خلفه انسحاب سوريا، كما أنها ليست الأمر الأهم في أوساط الفلسطينيين الذين أدلوا بأصواتهم بحرية ولكن بالطريقة الخطأ –في نظر الغرب. ثم إنها ليست الأمر الأهم في العراق حيث كانت الفصائل الثلاث الأولى في الانتخابات الأخيرة جميعها مدعومة من قبل ميليشيات غير ديمقراطية.
قد يصبح مستقبل الشرق الأوسط على المدى البعيد بيد أبنائه الذين وضعوا نصب أعينهم بناء الديمقراطية. وكلي أمل أن يأتي ذلك اليوم، ولكن الأمل يختلف عن السياسة. فعلى المدى القريب، علينا أن نقبل بأن المنطقة ستصبح محكومة في المقام الأول بسياسات القوة حيث سيتسم الصراع بين الخير والشر بالخلافات بين الس