منذ عدة أشهر لم تعد المقاومة العراقية في مواجهة قوات الاحتلال. وتراجعت الخسائر الأميركية كثيراً من جنود وعتاد. وفي مقابل ذلك زادت خسائر المدنيين العراقيين العزّل. واكتشفت مذابح جماعية للعراقيين، عشرات الجثث المقتولة رمياً بالرصاص أو شنقاً مع توثيق اليدين والرِّجلين مع التعذيب البدني. فمَن العدو؟ هل هم المواطنون العراقيون الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة، لا مع قوات الاحتلال ولا مع المقاومة الوطنية؟ وإذا جاز اعتبار المتعاون مع المحتل من قوات الأمن والجيش محتلاً تجب مقاومته، فهل يجوز اعتبار مجموع الشعب العراقي كذلك؟ وهل يجوز خطف الصحفيين الأجانب ووكالات الإغاثة وجماعات حقوق الإنسان وكلهم ضد الغزو الأميركي البريطاني للعراق، أصدقاء وليسوا أعداء. فالإنسان بفعله وليس بجنسيته؟
وإذا كانت المقاومة مركزة خاصة في المثلث السني فإن ما يدعو إلى الدهشة انعدام المقاومة الكردية في الشمال، والشيعية في الجنوب، وكلاهما، الأكراد والشيعة، أهل نضال ومقاومة، نضال الأكراد في المنطقة الكردية، ونضال الشيعة في الجنوب، وثورتهم ضد النظام العراقي السابق. بل إن رئيس العراق كردي، ورئيس المجلس الشيعي الأعلى صاحب كلمة مسموعة، وآية الله السيستاني له قدره واحترامه. وكان هو الوحيد القادر على إيقاف المعارك بين جيش الصدر وقوات الاحتلال. مع أن الفريقين نشطاء في الانتخابات، وتوزيع الحقائب الوزارية، وقسمة العراق طائفياً، وضياع الهوية العراقية الوطنية لصالح الهويات العرقية والطائفية. من يقاوم المحتل مثل العرب السُّنة لا يهتمون بالمناصب الوزارية. ومن لا يقاوم المحتل مهتمون بالمناصب الوزارية، رئاسة الدولة، ورئاسة الوزراء، ورئاسة البرلمان. ويتركز الخلاف كله حول تقلد المناصب، والحصول على أكبر قدر من السلطة تحت الاحتلال، وتغليب التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي.
ثم تفاقم الوضع بالتفجيرات المتبادلة للمساجد والأضرحة والمقامات والأسواق والمحال العامة بين السُّنة والشيعة مثل تفجير ضريحي الإمام الهادي والإمام العسكري. وليس للسُّنة ولا للشيعة مصلحة في ذلك. ولا في عقائد السُّنة أو الشيعة هذا التقتيل المتبادل بين الفريقين بعد جهد دام عدة قرون للتقريب بين المذاهب. ولا تصل الخلافات المذهبية إلى حد إراقة الدماء والتصفيات الجسدية كما تم من قبل في ذكرى استشهاد الحسين، وهو إمام معظّم عند السُّنة والشيعة على حد سواء. هو سيد الشهداء. إنما المصلحة لأميركا وإسرائيل. مصلحة أميركا في أن يتحول القتال بين المقاومة وقوات الاحتلال إلى اقتتال طائفي بين السُّنة والشيعة. فينشغل المقاتلون بالداخل وليس بالخارج. ويغلّبون التناقض الثانوي على التناقض الرئيسي. ومصلحة إسرائيل في الاستمرار في هدم العراق، وتفتيت الأمة بعد القضاء على النظام السياسي، وإذكاء العداوة بين الطوائف حتى ينشغل العراقيون واللبنانيون والجزائريون بالحروب الأهلية فيما بينهم بعيداً عن المواجهة مع إسرائيل من أجل القدس وفلسطين. وإذا نجح تفتيت العراق فإنه سيتكرر في لبنان بين مسلمين وموارنة، وفي سوريا بين علويين ودروز وسُنة، وفي الأردن بين بدو وحضر أو بين فلسطينيين وأردنيين، وبين زيدية وشوافع في اليمن، والسُّنة والشيعة في الخليج، وعرب وأفارقة في السودان والصومال...إلخ. والقصد أيضاً محو ذاكرة التاريخ فبدلاً من الصراع بين الكوفيين والبغداديين في النحو والفقه والكلام يقع القتال بين الشيعة والسُّنة، وبدلا من المساجد كمدارس للعلم تصبح هدفاً للتفجيرات المتبادلة. وبدلا من إحياء ذكرى الأئمة الشهداء الذين وقفوا في مواجهة الطغيان تُدمر مقاماتهم. ويمحون من ذاكرة التاريخ. ويصبح العراق بلا تاريخ قديم مثل أميركا. ويتحول العراقيون إلى نوع من الهنود الحمر الجدد.
والغاية النهائية تفتيت الوطن العربي إلى فسيفساء عرقي طائفي بداية من أطرافه الأربعة ونهاية بالقلب. من الشرق تفتيت العراق، وتآكل بوابة العرب الشرقية ثم الخليج كله بين سُنة وشيعة. ومن الغرب تتفتت أيضاً، كل أقطار المغرب العربي بين عرب وبربر. ومن الجنوب تنهار بوابة العرب الجنوبية بين عرب وأفارقة. وفي الشمال تتفتت الأقطار بين أكراد وعلويين ومسلمين ومارونيين في الشام الكبرى بدلاً من مشروع الهلال الخصيب الاستعماري القديم. وفي نفس الوقت الذي ينكمش فيه الوطن العربي من جهاته الأربع من أجل ضرب القلب في مصر بالتهميش أولاً ثم بالتفتيت ثانياً إلى مسلمين وأقباط تتمدد إسرائيل وتتسع حدودها. فلا عودة إلى حدود 4 يونيو- حزيران، ولا لدولة فلسطينية متواصلة الأطراف عاصمتها القدس الشرقية، ولا لعودة اللاجئين.
وكما لاحظ ابن خلدون من قبل أن العرب لا يفلحون إلا بصبغة نبوة أو ولاية أي بظهور زعيم أو مخلص أو مهدي، فالمهدية قاسم مشترك بين عقائد المسلمين، سُنة وشيعة، ينتظر الناس هذه الأيام مخلصاً، ابن بلد، يعيد سيرة "الحرافيش" وفتوات نجيب محفوظ، المهلهل بن ربيعة الذي بعد مقتل أخيه كليب صاح "اليوم خمر وغدا أمر"، اليوم أميرك