من وجهة النظر الإسرائيلية, فإن الجدار الذي تعكف الآن على بنائه تل أبيب, ليس أكثر من مجرد حاجز للفصل بينها والفلسطينيين. أما في عيون الفلسطينيين, فهو ليس أقل من جدار للفصل العنصري. ورغم الخلاف في وجهتي نظر الطرفين, فإنهما يتفقان على قبح شكله ومظهره, إلى جانب ما ينمُّ عنه من عواقب وتداعيات بعيدة المدى وعميقة الأثر على حياة الجانبين. والمعلوم أن الجدار يمتد متعرجاً حول الضفة الغربية, ليلتهم أجزاء واسعة منها، ثم يمتد كالأفعى داخل تلك الأراضي بحجة حماية المستوطنات الإسرائيلية هناك. ورغم تعمد إسرائيل عدم وصفه إلا كحاجز أمني, فإنه في الواقع يعزل أعداداً كبيرة من الفلسطينيين عن حقولهم ومدارسهم, ويحبس خلفه آلافاً أخرى منهم خلف سياج سميك من الحياة القاسية. ففي شرقهم يرتفع الجدار أمامهم عالياً, ساداً عليهم الريح والأنفاس والحياة والطرق, أما في غربهم فيقع "الخط الأخضر" القديم, الذي يمثل "الحدود الغربية لدولة إسرائيل"! ليس ذلك فحسب, بل يعد الجدار نفسه غير شرعي, بموجب الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في لاهاي حول هذا الشأن. فهل ثمة شيء واحد إيجابي يمكن أن يذكر لصالحه, حتى يخفف عنه كل هذا القبح والدمامة؟
ليست الإجابة على هذا السؤال, مما يمكن العثور عليه هنا بين صفحات هذا الكتاب, لمؤلفته إيزابيل كيرشنر بأي حال من الأحوال. ويبدأ هذا الكتاب بفصل افتتاحي يحمل عنوان "ضد الجدار"، لعله يكفي وحده لإعطاء فكرة كافية عن موقف المؤلفة ورؤيتها الشاملة لما يعنيه الجدار, من الناحيتين الأخلاقية والسياسية معاً. وكما قال "مايكل سوركين" الذي اضطلع بتحرير المقالات التي حواها الكتاب وإعدادها للنشر, فإن الجدار ليس أكثر من كونه إضافة جديدة معاصرة لعار كل الجدران التاريخية التي شيدت قبله, في أنحاء مختلفة من العالم. فمثله يقف الحاجز الأمني العازل بين دولتي شبه الجزيرة الكورية, وكذلك حائط برلين, إضافة إلى الخط الحدودي الفاصل بين المكسيك والولايات المتحدة الأميركية. ثم هناك بالطبع الحاجز النفسي الافتراضي السميك, الذي فصل لزمن طويل ما بين البيض والسود في جنوب أفريقيا, إبان فترة الفصل العنصري التي امتدت عدة قرون.
ووفقاً للمقالات المتضمنة في هذا الكتاب, فالجدار الأمني العازل, يحيل حياة الفلسطينيين إلى جحيم لا يطاق, بالنظر إلى ما سينتج عنه من تعقيدات للحياة, إضافة إلى كونه يضع حداً نهائياً وعملياً لما يجب أن يكون عليه ترسيم الحدود النهائية لدولة إسرائيل, مما يعني تكريسه لواقع الاحتلال والسياسات التوسعية الإسرائيلية على حساب الفلسطينيين. وبالنتيجة فإنه يكاد لا يترك للفلسطينيين ما يكفي ويصلح من الأرض للإعلان عن دولة وطنية تخصهم كفلسطينيين. وهكذا ينهض الجدار تجسيداً لاغتيال الحلم الفلسطيني, والحكم على الفلسطينيين بالسجن المؤبد مدى الحياة! وعلى نقيض كل حقائق الفيزياء – كما يقول المحرر سوركين- فإن جدار الفصل العنصري الإسرائيلي, إنما يرمز إلى حقيقة فيزيائية جديدة ومغايرة تماماً في معناها, تحاول التأكيد على أنه ليس في وسع جسمين متجاورين, أن يقتسما المساحة ذاتها بينهما, في لحظة مشتركة من التاريخ والزمان!
يذكر أن المقالات المنشورة في هذا الكتاب, تحمل جميعها عناوين ملخصة لموقف الكاتبة, ودالة على معناها العام دون أدنى لبس أو غموض. من هذه العناوين على سبيل المثال: الانتحار الفضائي, السياسة البيولوجية, المشروع الاستعماري الإسرائيلي من عام 1947 وصولاً إلى الجدار, الحواجز والحيطان والديالكتيك, تكوين وتمدد نزعة الفصل العنصري في إسرائيل, فلسطين, الفصل البدائي, فضاءات الحواجز و"الجيتو", الأرض الخواء: أرخبيل الحواجز واستحالة سياسات الفصل... وغيرها من عناوين كثيرة على هذه الشاكلة.
على أن ذلك لا يوحي البتة باعتماد الكتاب على الأحكام والمواقف الجاهزة المسبقة, مما يعني خلوه من عمق التحليل والموضوعية في تناول ظاهرة الجدار, في خلفياتها التاريخية والاجتماعية والسياسية والأمنية والاقتصادية. بل على العكس تماماً, فما من سبيل للإلمام الكامل بقصة هذا الجدار ودوافعه وخلفياته –القائمة في صلب وتاريخ الدولة الصهيونية- وما يخفيه خلفه من عواقب وتداعيات إنسانية اقتصادية واجتماعية وسياسية معاً, في الجانب الفلسطيني, دون قراءة هذا الكتاب, والتمعن في ما احتواه. وبصفتها صحفية إسرائيلية, فهي لاشك حجة فيما كتبت وتناولت. غير أنها لم تكتف برأيها وحده, بل أجرت سلسلة ممتدة من اللقاءات والحوارات الصحفية مع كل من ضحايا الجدار ونشطائه في كلا الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. وبذلك تمكنت من صوغ ما جمعته من آراء ووجهات نظر متباينة, بل ومتصارعة فيما بينها, علاوة على رؤيتها الخاصة للموضوع, بحيث يصب كل هذا الجهد في وضع الكتاب في سياقه السياسي والاجتماعي والاقتصادي الموضوعي الصحيح والمتوازن. وفي إطار هذه النظرة المتوازنة, لم يفت الكاتبة أن حلماً آخر قد قبر وقضي عليه, خلافاً للحلم الفلسطيني. والمعني بهذا أن الجدار يضع