منذ عدة عقود والكاتب الأميركي كيفين فيليبس منكب على دراسة الحياة السياسية الأميركية محاولا استشراف مستقبل السياسة الأميركية الداخلية. البداية كانت مع كتابه الأول المعنون "الغالبية الجمهورية الصاعدة" الذي أصدره عام 1969 وتنبأ فيه بصعود النفوذ الجمهوري في السياسة الداخلية الأميركية بسبب تغلغل القوى المحافظة في النسيج الاجتماعي الأميركي وانتقال القوى السياسية من الولايات الشمالية التي كانت تشكل المعقل الصناعي الأميركي إلى الولايات الجنوبية والغربية. وتوقع المؤلف أن يؤدي ذلك إلى عودة النظام والاستقرار إلى الحياة الأميركية بعد فترة من التململ تحت وطأة القيم الليبرالية والتحررية. لكن المؤلف الذي ظل متابعا للتطورات السياسية على الساحة الأميركية طيلة تلك الفترة تخلى عن حماسه القديم تجاه التحالف الجمهوري الذي بشر به في مرحلة سابقة، وانخرط من خلال كتابه الأخير الذي نعرضه هذا الأسبوع تحت عنوان "الثيوقراطية الأميركية"، في دراسة المنحى الذي سلكه المحافظون الجمهوريون في السياسة الأميركية طيلة العقود القليلة الماضية.
لم يعد المؤلف ينظر إلى الحكومة الجمهورية على أنها مصدر للاستقرار والنظام، بل تحولت مع مر الأيام إلى مصدر مرعب يختص في تفريخ التطرف الأيديولوجي، وسياسات مالية كارثية، فضلا عن انحسار مهول في المقدرة على رسم استراتيجية أميركية واضحة المعالم. وفي مرحلة كثرت فيها المراجع والكتب التي تحذر من العثرات الأميركية سواء على الجانب الليبرالي أو الجانب المحافظ، يعتبر كتاب "الثيوقراطية الأميركية" من أكثر التحليلات رصانة، حيث تناول الحاضر الأميركي وما ستؤول إليه الأمور في المقبل من العقود. ورغم ما يثيره الكتاب من جدل ونقاش، إلا أنه يستند إلى بحث وافٍ حول الموضوع ليأتي مكتمل الحجة قوي البرهان إلى درجة أرعبت العديد من القراء الأميركيين بشأن ما ينتظر بلادهم في المستقبل.
ورغم أن إدارة الرئيس بوش وسياساتها المرتجلة لم تسلم من انتقادات فيلبيس اللاذعة، إلا أنه يتجنب الوقوف كثيرا عند سياسات ومواقف الرئيس بوش وأركان إدارته، بل يركز انتباهه في المقابل على ثلاثة تيارات كبرى تمور بها الحياة السياسية الأميركية التي وإن لم تكن إدارة بوش المسؤولة الوحيدة عنها إلا أنها بلاشك ساهمت في تفاقمها. ويأتي في مقدمة تلك التيارات دور النفط في تحديد، وبالنسبة لفيليبس، في تشويه السياستين الداخلية والخارجية الأميركية، ليتلوها التدخل السافر للمسيحية الراديكالية في شؤون السياسة والحكم، وأخيرا المعدلات الهائلة للدَّيْن الخارجي الأميركي الذي وصل إلى أرقام خرافية وأهمل موضوعه ليتراكم ويصل إلى مستويات مخيفة تهدد تماسك الاقتصاد الأميركي على المدى المتوسط. وإذا كان هناك من خط ناظم يوحد بين التيارات الثلاثة الخطيرة التي تحدق بالمسيرة الأميركية وتهدد تقدمها فإنه يتجسد في غياب بعد النظر في التعامل مع المشاكل المستقبلية والانكباب بدلا من ذلك على التطلعات الآنية للسياسيين دون وجود خطة تستشرف القادم وتجترح الحلول للخروج من النفق المظلم.
لقد أصبح النفط بالنسبة لأميركا هاجسها الأول الذي يؤثر في سياستها الداخلية، حيث ظهر ذلك بشكل واضح منذ اليوم الأول لدخول القوات الأميركية إلى بغداد. وهنا يلفت المؤلف النظر إلى الطريقة التي تناقلت بها وسائل الإعلام الأميركية أنباء نهب متحف بغداد بسبب غياب الحراسة الأميركية التي تركته مشرعا أمام اللصوص والمخربين، بينما أغفلت وسائل الإعلام نفسها خبرا اعتبره المؤلف أكثر أهمية متمثلا في تطويق وزارة النفط العراقية من قبل القوات الأميركية وفرض حراسة مشددة عليها لأنها تضم الخرائط المهمة الخاصة بمواقع إنتاج النفط العراقي. المؤلف يؤمن بالدور الكبير الذي لعبه النفط في احتلال العراق، بل يعتبره المحرك الأساسي للتحرك العسكري الأميركي الذي سعى إلى تأمين الاحتياطيات النفطية الهائلة وحراستها. ولا تشكل الدوافع الأخرى التي تسوقها الإدارة الأميركية مثل القضاء على الإرهاب ونشر الديمقراطية سوى ذرائع تغطي الغرض الحقيقي من احتلال العراق.
وقد بلغ الحد بالولايات المتحدة حسب المؤلف اعتناق ما أسماه بمبدأ "الإمبريالية النفطية" التي تعبر عن نفسها من خلال "تحول الجيش الأميركي إلى قوة عالمية لحماية النفط تتستر وراء واجهة الديمقراطية في حين أنها تسعى لتأمين الطرق البحرية وحماية المنشآت النفطية مع إغفال تام لإدارة الشؤون اليومية". بعد ذلك ينتقل المؤلف للحديث عن الدور الخطير الذي باتت تلعبه المسيحية الراديكالية في تشكيل الحياة الأميركية المعاصرة من خلال تدخلها السافر في الشؤون العامة للبلاد. غير أن الدور المتنامي للجماعات المسيحية المتشددة في الحياة السياسية الأميركية ليس بالأمر الجديد على الأميركيين الذين خبروا ذلك منذ الانتخابات الرئاسية عام 2004. وقد أصبحت مجموعة الكنائس المعمدانية في الجنوب الأميركي تهيمن على الخطاب الديني البروتستانتي في الولايات المتحدة بحيث يتطلع من