أصبح روكفلر -مثل صانع السيارات الشهير هنري فورد- رجلاً بالغ الثراء، فقرر أن يخصص جزءاً من ثروته لتشجيع العلم والعلماء بصورة مستمرة، سواء عن طريق المنح الدراسية للطلاب أو تمويل البحوث وبناء المؤسسات العلمية.
وفي إطار مؤسسته جاء إلى القاهرة هذا الأسبوع حوالى 30 أستاذاً وباحثاً يمثلون أكثر من 22 جنسية مختلفة، ليناقشوا ويتدارسوا مهمة العلم والعلماء في بداية القرن الحادي والعشرين، حتى يستطيعوا التأثير على توجه المستقبل، إن لم يكن هندسته. وكان مدخلهم إلى هذه المهمة المطلوبة هو حالة الدراسات العليا والبحث العلمي في هذه الآونة، والتغييرات التي نحتاج إليها في هذا المضمار، ثم كيفية تحويلها إلى واقع معيش للطلاب والباحثين والمجتمع بأسره.
لذلك كان هناك محوران رئيسيان: الأول يعالج الدور المجتمعي للدراسات العليا فيما يتعلق بتأثير هذه الدراسات على نمو المجتمع المدني، واختيار أولويات التنمية وكذلك احترام الحد الأدنى من معايير الجودة في حالة زيادة عدد الطلبة زيادة كبيرة. أما المحور الثاني فقد ركز على النقطة التالية؛ وهي وسائل إصلاح الدراسات العليا للمحافظة على جودة العملية التعليمية، على أساس أن هذه الجودة هي الأساس لأي تقدم في المجتمع. وبما أن موارد الدولة محدودة لمواجهة زيادة الطلب والأعداد الكبيرة المتدفقة على العملية الدراسية العليا، فقد ناقش الباحثون دور القطاع الخاص، إذ قد تحل مساهمة القطاع الخاص مشكلة نقص الموارد المالية، كما أنها تؤدي إلى زيادة تحديث العملية التعليمية وكذلك استيراد أفضل وأحدث وسائل التكنولوجيا. ولكن هل هناك خطر من تأثير القطاع الخاص عل استقلالية الجامعة وكذلك نزاهة العملية التعليمية ككل؟ هناك فعلاً خطر من هذه الناحية، خاصة أن بعض ممثلي القطاع الخاص ينظرون إلى استثماراتهم في المدارس والجامعات الخاصة على أنها نوع من "البيزنس" ويسيطر عليهم هدف الربح لكي يصبح التعليم في هذه الحالة مجرد سلعة يتداولها من يدفع أكثر ويحاول المستثمر توجيهها نحو الربحية الأكبر. والنتيجة أن تتأثر الأهداف النبيلة للعملية التعليمية، ونقوم بتخريج عقول "مضروبة".
كان النقاش حول هذا الموضوع حاداً، وانقسم المجتمعون كلٌ حسب تجاربه مع خصخصة التعليم أو عدم وجود الموارد وعجز الدولة عن القيام بمهمتها في هذا الصدد.
كان كل هذا النقاش يدور بينما هناك شبح يسيطر على الجميع، ألا وهو شبح العولمة. وكان تنوع جنسيات المشتركين -كأنهم أمم متحدة خارج مقرها في نيويورك- برهاناً على وجود هذه العولمة وتأثيرها. وقد اتفق المشتركون على تعريف العولمة بوصفها السيولة الكبيرة والسريعة للأفكار عبر الحدود الوطنية، أو اختزال المسافات وموت الجغرافيا. كما اتفق المشتركون أيضاً على أن العولمة تزيد الطلب على الدراسات العليا، لأن الكل مهتم بأن يكون جزءاً من مجتمع المعرفة الذي هو من أهم سمات هذه العولمة.
وبسبب اختزال المسافات وأهمية مجتمع المعرفة أصبح الحراك الدولي من أهم خصائص الدراسات العليا، فإما أن نذهب جسمانياً إلى مراكز التحصيل والبحث أو -إذا تعذر ذلك- تأتي هي إلينا. وفي الواقع كانت إحدى نتائج الهجوم على نيويورك وواشنطن عام 2001، أن اشتدت صعوبة الحصول على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، وبالتالي قامت بعض الجامعات الأميركية بفتح فروع لها في منطقة الخليج العربي مثلاً، كما هو الحال بالنسبة لجامعة كورنيل الشهيرة في قطر أو المجمع العلمي الحديث في الإمارات.
هناك ظاهرة جديدة في العلاقة الوطيدة بين العولمة والدراسات العليا: أصبح التنقل والحراك الطلابي ليس فقط من دول الشمال المتقدم إلى دول الجنوب النامي، كما كانت العادة، ولكن بين دول الجنوب نفسها. فأصبحت دول الخليج محطّ أنظار بعض الباحثين والدارسين، وكذلك الهند التي تطورت لتكون عملاقاً تكنولوجياً، إلى جانب جنوب أفريقيا التي وفد إليها للدراسة فيها خلال عام 2002 ما يزيد على 46000 دارس، بينما خرج منها نحو 10000 طالب فقط، أي أقل من ربع عدد الوافدين.
هل يؤدي هذا إلى تخفيف الآثار الضارة لنزيف العقول؟ رغم أن التوجه العام بين المشتركين أكد مرة أخرى، ضرورة وقف هذا الاستنزاف لموارد الدول النامية، إلا أنه كان هناك رأي يذهب إلى أنه يجب ترك الحرية لهؤلاء الباحثين للذهاب لدول الشمال المتقدم لتنمية مقدراتهم، لأن دولهم ليست لديها القدرة المالية والبحثية لمواجهة طلباتهم، وخاصة أن هؤلاء يعودون إلى ديارهم أو على الأقل يرتبطون بها، مستفيدين في ذلك من التسهيلات وسبل الاتصال التي تقدمها العولمة.