مازلت أتذكر جيداً فترة في الستينيات كان من الممكن خلالها توقع ما سيحدث على الساحة السياسية في بريطانيا. حينها كان "هارولد ويلسون" زعيم حزب "العمال"، وكان "إدوارد هيث" زعيم حزب "المحافظين". وقد تعاقب الحزبان التقليديان على الحكم خلال تلك الفترة، وفي حين كان أحدهما يدافع عن التأميم كان الآخر ضده. وقد كانت المواقف ثابتة والآراء معروفة، ما جعل الحياة السياسية مملة إلى حد كبير.
ولكن كم هي الأمور مختلفة اليوم في الساحة السياسية بالبرلمان! من المرتقب أن تجري الانتخابات العامة المقبلة في غضون ثلاث سنوات، وقد تعهد رئيس الوزراء توني بلير بالتنحي عن منصبه قبل هذا الموعد، ومن المفترض أن يتسلم منه المشعل وزير الخزانة غوردون براون. والواقع أن الاقتصاد في صحة جيدة وإن كانت الضرائب، كما عودتنا على ذلك الحكومات العمالية، مرتفعة والإنفاق الحكومي كبيراً، غير أن الحزب العمالي يبدو منهكا ومنقسما هـذه الأيام.
أما الحزب "المحافظ"، فيقوده زعيم جديد هو "ديفيد كامرون"، البالغ من العمر تسعة وثلاثين عاماً، والذي يعد شخصية جذابة ولكن تعوزها التجربة. ولعل ذلك ما يفسر تحركاته الأخيرة بهدف تغيير صورة الحزب في أذهان البريطانيين، إلا أنه، وبالرغم من ذلك، لم يتخذ حتى الآن قرارات مهمة كثيرة. ثم إن الجناح "اليميني" في الحزب لا يخفي عدم رضاه واحتجاجه على ما يبديه "كامرون" من ميول إلى الوسط المزدحم. وبالتالي، فيمكن القول إن أمام "المحافظين" جبلاً عليهم صعوده إن هم كانوا يرغبون في زيادة حظوظ فوزهم بمقاعد أكثر من حزب "العمل".
وقبل بضعة أيام فاز السير "مانزيس كامبل"، المعروف بين أصدقائه باسم "مينغ"، بزعامة حزب "الديمقراطيين الأحرار" (وهو الحزب الذي نتج –للتذكير- عن اندماج الحزب الليبرالي القديم والحزب الاجتماعي الديمقراطي في 1988). وقد تقدم السير "مانزيس" بفارق واضح عن منافسه "كريس هون" الذي لم يدخل مجلس "العموم" إلا في مايو المنصرم. وبعد انتصارهم المذهل وغير المتوقع على حزب "العمال" في انتخابات جزئية بدائرتين انتخابيتين هما "دانفورملاين" و"فيف ويست" في فبراير الماضي، أصبح لـ"الديمقراطيين الأحرار" اليوم ما مجموعه 63 مقعداً داخل مجلس "العموم" البريطاني.
ويتوقع المحللون السياسيون ألا تسفر الانتخابات المقبلة عن تقدم واضح لأحد الحزبين التقليديين، مع وجود حزب "الديمقراطيين الأحرار" في الوسط. وفي حال حدوث هذا السيناريو، فمن المرتقب أن يكون السير "مانزيس" صاحب الكلمة الفصل في ما إن كان حزب "العمال" أم حزب "المحافظين" هو الذي سيشكل الحكومة المقبلة بدعم من "الديمقراطيين الأحرار".
هذا ويعد السير "مانزيس" شخصية محترمة وتحظى بشعبية كبيرة في البرلمان البريطاني. ولو أنه عاش في أوائل القرن الماضي، لكان اختير ربما ليشغل منصب الحاكم العام في السودان، ولكان جميع الحكام الإقليمين سعداء بذكائه وسلطته وجاذبيته، ذلك أنه بالفعل زعيم بارز ومحنك. وقد تلقى السير "مانزيس" تعليمه بإحدى ثانويات غلاسغو بسكوتلندا، ثم التحق بعد ذلك بجامعة غلاسغو، كما درس أيضا بجامعة ستانفورد بكاليفورنيا. وشارك "مانزيس" في الألعاب الأوليمبية، وكان قائد فريق الرياضيين البريطانيين في 1965-1966. كما خاض مشواراً قانونياً ناجحاً في سكوتلندا، وفي 1987 حاز على جائزة "فايف نورث إيست". وسرعان ما أصبح "مانزيس" المتحدث باسم "الديمقراطيين الأحرار" في شؤون الدفاع والخارجية بمجلس العموم، ليشغل لاحقا منصب نائب زعيم الحزب في عهد تشارلز كينيدي.
اشتهر "السير مانزيس" في بريطانيا بالمعارضة القوية والشجاعة التي أبداها إزاء الغزو غير الشرعي للعراق، هذا علما بأن الرأي العام وقتها كان مؤيداً في أغلبيته لرئيس الوزراء توني بلير بشأن التدخل في العراق والإطاحة بنظام صدام حسين. وقد تمكن "مانزيس" من إقناع "تشارلز كينيدي" بأن الأمر هو من المواضيع التي على حزب "الديمقراطيين الأحرار" اتخاذ موقف مؤيد فيها للأمم المتحدة والقانون الدولي. وهكذا لم يتوان "مانزيس"، حسن الاطلاع ومهيب الجانب، ليلة بعد ليلة، وعلى الإذاعة مثلما على التلفزيون، عن شرح وجهة نظره وتفسيرها للجمهور البريطاني. وفي الانتخابات العامة التي نظمت العام الماضي كوفئ "الديمقراطيون الأحرار" على موقفهم المناهض للحرب.
يبلغ "مانزيس" اليوم أربعة وستين عاما، ويرى منتقدوه أنه أكبر سناً من أن يشغل منصب زعيم الحزب، خصوصاً وأن منافسه المحافظ "ديفيد كامرون" مازال دون الأربعين. والحال أن معظم الناخبين في المملكة المتحدة هم من فئة كبار السن، أما الناخبون الأصغر سناً فلا يبدو أنهم يكترثون كثيراً لأمر التصويت. وعلاوة على ذلك، فحزب "مانزيس" يلقى تأييدا كبيرا في أوساط الناخبين ممن هم دون سن الثلاثين، ويبلي بلاء حسناً في المدن التي توجد فيها جامعات.
وبعد فوز السير "مانزيس" بزعامة الحزب، بذل قصارى جهده لتعيين فريق شاب من المتحدثين الرسميين باسم الحزب في البرلمان. وهكذا، تم على سبيل المثال من