عشية القمة العربية المقرر عقدها في الخرطوم، شهد العالم العربي عودة ناشطة لروسيا متلزمة مع انتكاسة واضحة للسياسة الأميركية. أما معالم هذه الانتكاسة فتظهر واضحة في العراق الذي يقف على شفير حرب أهلية في الوقت الذي تردد الدبلوماسية الأميركية أن هدفها هو تحويله إلى ديمقراطية نموذجية للمنطقة العربية كلها. كما تظهر معالم هذه الانتكاسة في فلسطين حيث وجه إيهود أولمرت نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية ما يعتقد أنه رصاصة الرحمة إلى "خريطة الطريق" التي أقرتها القوى الأربع (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة). وتظهر أيضاً في السودان من خلال تعثر معالجة قضية دارفور بمعزل عن المجموعة الإفريقية؛ وفي إيران من خلال الفشل في معالجة ملفها النووي.
ويأخذ هذا الفشل أبعاداً استثنائية من خلال الفرص التي توفرت للولايات المتحدة باستفراد الشرق الأوسط وقضاياه طوال العقد الماضي، حيث كانت وحدها صاحبة المبادرات السياسية والدبلوماسية وبالتالي صاحبة القرار الأكثر تأثيراً وهيمنة.
وإذا كان التفرد الأميركي قد أدى إلى استدراج المنطقة إلى حالة اللاتوازن والاضطراب ..
فإلى أين يمكن أن تؤدي عودة الدور الروسي؟.
ثمة أربعة مؤشرات أساسية للعودة الروسية إلى المنطقة: هناك أولاً القضية الفلسطينية. إن استقبال وفد حركة "حماس" في موسكو رغم التهديدات الإسرائيلية العالية النبرة، ورغم المعارضة الأميركية، ورغم الاتهامات الأميركية لـ"حماس" بأنها حركة إرهابية، يعكس جرأة روسية في تجاوز المحظورات الأميركية، كما يعكس إرادة مستقلة ومنفلتة من ضغوطات معادلات ما بعد الحرب الباردة التي انتهت لمصلحة واشنطن. لقد كانت زيارة "حماس" للكرملين أول إطلالة لها على العالم خارج المنطقة العربية. وكانت بالتالي تثبيتاً دولياً لشرعيتها الوطنية التي حصلت عليها من الشعب الفلسطيني.
وهناك ثانياً القضية النووية الإيرانية. صحيح أن موسكو لم توافق على قرار إيران تخصيب اليورانيوم داخل أراضيها، ولكنها اعترفت لإيران بالحصول على اليورانيوم المخصّب، ولذلك اقترحت أن يتم التخصيب بمشاركة علماء إيرانيين ولحساب إيران، داخل الأراضي الروسية.
وهناك ثالثاً الملف اللبناني- السوري. فروسيا تحث سوريا على ضرورة احترام قرارات الأمم المتحدة سواء منها ما يتعلق بالتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، أو بتطبيق بقية بنود القرار 1559. وفي هذا الإطار جاءت زيارة وزير الخارجية السوري الى موسكو، والتي تزامنت بالصدفة(؟) مع زيارة تيري رود لارسن ممثل الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان لتطبيق القرار 1559. وقد بدا واضحاً من تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن الكرملين ملتزم ليس فقط بقرار مجلس الأمن الدولي ولكنه ملتزم أيضاً بالعمل على تنفيذه. وهذا الالتزام كان الجامع المشترك في موسكو بين الوزير السوري وليد المعلم وممثل الأمين العام للأمم المتحدة. وهناك رابعاً المدخل الجزائري للعودة الروسية حيث قام الرئيس فلاديمير بوتين بأول زيارة له للجزائر التي كانت في العهد السوفيتي السابق الحليف الاستراتيجي الأول للكرملين في إفريقيا وفي المغرب العربي. والرئيس الجزائري بوتفليقة كان من مؤسسي هذه الاستراتيجية التحالفية عندما كان وزيراً للخارجية في عهد الرئيس الأسبق بومدين.
وتبيّن هذه المؤشرات الأربعة أن ثمة "لا" روسية ترتفع في وجه السياسة الأميركية التي استفردت بشؤون المنطقة منذ عام 1989، أي منذ سقوط جدار برلين وتفتت الاتحاد السوفيتي وانهيار منظومة حلف وارسو.
حاولت المجموعة الأوروبية أن تلعب دوراً سياسياً يتسم بقدر من الاستقلالية عن الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ولكنها فشلت، أو على الأقل تعثرت. ويعود ذلك إلى سببين أساسيين. السبب الأول هو عدم تعاون المجموعة العربية مع المجموعة الأوروبية، إلا في حدود كلامية فقط. فالاعتقاد العربي بأن الولايات المتحدة قادرة وحدها على صنع التسوية السياسية مع إسرائيل، أدى إلى وضع كل البيض العربي في سلة واحدة، هي السلة الأميركية.
أما السبب الثاني فهو أن إسرائيل تعمّدت وباستمرار إجهاض أي تحرك أوروبي مستقل لحساب التفرد الأميركي.
جرى ذلك في غياب -وتغييب- كامل لروسيا التي كانت منشغلة بإعادة لملمة صفوفها الداخلية بعد وصول بوتين إلى السلطة. فالكرملين يعتبر -ربما عن حق- أن تفجير الحرب الشيشانية وتمويلها كان أمراً مقصوداً في حد ذاته لتشويه صورته في العالمين العربي والإسلامي، وبالتالي لتعطيل أي محاولة يقوم بها لاستئناف دوره المستقل عن الولايات المتحدة، بل المعارض لها في الشرق الأوسط. وقد نجح الكرملين في الحصول على عضوية مراقب في منظمة المؤتمر الإسلامي (يوجد أكثر من 20 مليون مسلم روسي) وكان هذا النجاح أول اختراق لجدار العزلة.
وقياساً على ذلك فإن الكرملين الذي يعمل الآن على إعادة بناء الجسور مع العالم العربي- الإسلامي يستطيع أن يحقق هدفين أساسيين في وقت واحد. الهدف الأول داخلي وهو ت